عن قمة أسمرة الثانية وإعادة تشكيل تحالفات القرن الأفريقي
كبركان نشط تتفاعل الأحداث في القرن الأفريقي، لأهميتها جيوبوليتيكياً واستراتيجياً. تتبدّل التحالفات والتكتّلات منذ الحرب الباردة. سقطت دول وعلى أثرها نهضت أخرى، غيرّت طبيعة التحالفات، فمُجرَّد حركة خاطئة في رقعة الشطرنج تفرز لاعبين جدداً يعيدون رسم خريطة نظام إقليمي بتحالفات جديدة، إذ عُقِدت قمّة أسمرة الثانية في أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، ضمّت رؤساء الصومال وإريتريا ومصر، في جوٍّ مختلف عن سابقتها (الأولى عام 2018). كثير من التفاؤل وحسن النيات ولجم فوّهات الدبّابات والتوجّه نحو التنمية والتكامل الاقتصادي بين دول القرن الأفريقي، معطيات لطَّفت أجواء القمّة التي جمعت أبي أحمد وأسياس أفورقي ومحمد عبد الله فرماجو (2017 - 2022)، أمّا هذه القمّة فجاءت وسط توتّرات أمنية وسياسية تشهدها دول المنطقة، نتيجة سياسات أبي أحمد التي تثير القلاقل، سيّما بعد مذكّرة تفاهم مثيرة للجدل مع إقليم أرض الصومال، التي تركت ارتداداتٍ عكسيةً بأبعاد ثلاثة.
ظروف طارئة دفعت مصر للتحرّك على نحو عاجل باتجاه منطقة القرن الأفريقي، فبعد فشل جهود المفاوضات مع إثيوبيا في ما يتعلّق بمشروع سدّ النهضة، وإعلان أبي أحمد نيّته المبيَّتة للوصول إلى منفذ في البحر الأحمر بالقوّة أو بالتفاوض، في أكتوبر/ تشرين الأول 2023، دفع هذا التحرّك المفاجئ القاهرة إلى تغيير سياسة المتابعة والترقّب تجاه دول القرن الأفريقي، وانخرطت في اتفاقية أمنية عسكرية مع مقديشو، إلى جانب تشبيك علاقاتها مع أسمرة، في محاولة للي أذرع أديس أبابا من جوارها، وتفكيك تحالفاتها مع الدول الإقليمية، وتعريتها في المحافل الدولية، ما جعل حكومة أبي أحمد تواجه أزمةً خارجيةً في كيفية إدارة ملفّات خلافاتها المعقّدة مع جوارها (الصومال وإريتريا) ومصر، فعدم توفّر رؤية إثيوبية لتجاوز الألغام السياسية التي تزرعها القاهرة بحذر في المنطقة، يدفعها إلى المغامرة والانجرار نحو عسكرة مطالبها للوصول إلى البحر الأحمر، وهو ما يفجّر الوضع الأمني الداخلي في إثيوبيا أكثر، ويجعل إقليم أرض الصومال أرضاً محروقةً بالحرب بالوكالة، وساحةً لتصفية حسابات إقليمية.
انخرطت مصر في اتفاقية أمنية عسكرية مع مقديشو، إلى جانب تشبيك علاقاتها مع أسمرة، في محاولة للي أذرع أديس أبابا من جوارها، وتفكيك تحالفاتها مع الدول الإقليمية
يقول بعضهم إنّ فكرة إنشاء تكتّل إقليمي يجمع دول القرن الأفريقي عوضاً عن الهيئة الحكومية للتنمية (إيغاد)، الضعيفة وغير القادرة على حلّ أزمات القرن الأفريقي، وأصبحت دُميةً بيد أديس أبابا، وتدار دفّتها من الخارجية الإثيوبية، تعود إلى الرئيس السوداني المعزول عمر البشير، لكنّ هذه الفكرة لم تخرج من إطار المداولات الداخلية فقط، وانتهى بها المطاف إلى بروز تكتّل آخر جمع الصومال وإريتريا وإثيوبيا في تحالف واحد، تتويجاً لجهود دبلوماسية بذلها أبي أحمد لتغيير وجهة القرن الأفريقي، من بوتقة للاضطرابات والتوتّرات إلى واحةٍ للسلام والرخاء. سرعان ما تغيّر المشهد بعد مرور خمس سنوات من هذا التحالف، نتيجة وصول رئيس جديد للسلطة في الصومال (حسن شيخ محمود) في 2022، واندلاع حرب تيغراي (2020)، وأعقب ذلك توتّرات سياسية بين أسياس أفورقي وأبي أحمد، بشأن نزع سلاح جبهة تحرير تيغراي، ما حكم على قمّة أسمرة الأولى 2018 بالإعدام تلقائياً، ومن دون انتظار إعلان الانهيار لهذا التحالف.
راهناً ما يجمع مصر والصومال وإريتريا في القمّة أخيراً، وما يفهم من البيان الذي تمخّض عنها، أنّ عدواً مشتركاً يهدّد مصالح الدول الثلاث، وهي حكومة أبي أحمد، التي تصّدر عدوى التوتّرات الداخلية إلى محيطها الإقليمي، ففرص فرض مصالحة داخل إثيوبيا تتضاءل مع مرور الوقت، بينما مليشيات فانو الأمهرية تخوض حرباً ضدّ الجيش الإثيوبي في إقليم أمهرة، وتظهر سلسلة من الفيديوهات في منصّات التواصل الاجتماعي أسرها جنوداً من الجيش الإثيوبي، وزعمها السيطرة على قرى وبلدات في مناطق عدة شمال إثيوبيا.
تبدو جيبوتي أنها تمرّ بمنعطف خطير، نتيجة ما يجري من تحالفات في المنطقة
الرد الإثيوبي تجاه مخرجات قمّة أسمرة كان متوقّعاً، لكن لم يكن في خلد المتابعين أن يخرج بهذه الصورة الهزيلة، فالاكتفاء بالإشارة إلى أنّ مساعي حكومة أبي أحمد تهدف إلى تجنيب المنطقة التوتّرات غير الضرورية، وحملات تشويه الصورة. في الوقت نفسه، فإنّ أديس أبابا هي التي أشعلت فتيل التوتّرات، بعد أن ضربت حجراً في السيل الجارف نحوها، ما يعكس مدى التخبطّ السياسي الذي تعيش فيه أديس أبابا، ولاتزال تتمسّك بموقفها تجاه مذكّرة التفاهم مع إقليم أرض الصومال، الذي يشهد في نوفمبر/ تشرين الثاني القادم انتخاباتٍ رئاسيةً ستحدّد مدى صلاحية هذه المذكّرة ومستقبلها، فإذا تمكّن الرئيس الحالي موسى بيحي عبدي من العودة إلى الرئاسة من جديد ستتعزّز مكاسب إثيوبيا في مواجهة خصومها الإقليميين، وبكلّ قوة، لكن إذا خسر المعترك الانتخابي، فإنّ أوراق أبي أحمد الإقليمية تسقط سريعاً كورقة التوت.
ثمّة مصالح متناقضة جمعت الدول الثلاث (مصر إريتريا والصومال) في خندق واحد لمواجهة إثيوبيا، وسرّ هذا التحرك ضدّ إثيوبيا يكمن أساسه في مدى قدرة القاهرة على التوفيق بين مصالح دول القرن المتحالفة معها ومصالحها الجيوسياسية والمائية في المنطقة، ومدى استمرارية تحالفها مع هذه الدول مستقبلاً، حتّى لو أبدت أديس أبابا مرونةً فيما يتعلّق بحلّ خلافاتها العالقة مع كلّ من الصومال وإريتريا، ما يمكن أن يعيد ترتيب تحالفات القرن الأفريقي من جديد، لأنّ إثيوبيا يمكن أن تتراجع عن هذه المذكّرة إذا استشعرت أنّها تواجه خطراً أمنياً كبيراً يهدّد وجودها، فإذا لم توظّف القاهرة سياساتها لتعميق تواجدها والانخراط في شراكات استراتيجية مع كلّ من الصومال وجيبوتي وإريتريا، فإنّ إمكانات البحث عن النفوذ في المنطقة، لن تؤتي أُكلَها، وتحرّكاتها أخيراً ستأتي في إطار استعراض عضلات مصري، ومناورات بهلوانية في الهواء الطلق لا طائل من ورائها.
إذا عسكرت إثيوبيا طموحها، فإنّ الخاسر الأكبر في هذه الحرب هي الصومال التي ستتحوّل ساحةَ حرب إقليمية
الغائب الحاضر، في القمّتَين اللتَين عُقدتا في أسمرة في فترتَين مختلفتَين، هي جيبوتي، التي لا ترى أسياس أفورقي رجلاً يمكن الوثوق به في حلّ الأزمات الإقليمية، أو يمكن أن يكون داعماً أساسياً لإنهاء التوتّرات، وتبدو جيبوتي أنها تمرّ بمنعطف خطير، نتيجة ما يجري من تحالفات في المنطقة، فلا هي تقدر على استعداء إثيوبيا الطامحة للوصول إلى البحر الأحمر ما يقضم دور موانئها التي تدرّ خزينتها مواردَ مالية ضخمة (1.5 مليار دولار سنوياً) نتيجة اعتماد التجارة الإثيوبية على موانئها، ولا تستطيع أيضاً أن تبقى في عزلتها الإقليمية راهناً، كما أنّ التطوّرات الأمنية وانعكاسات حرب غزّة على الإقليم أثّرت سلباً في قطاع الموانئ في جيبوتي، فتراجعت موانئها وفق مؤشّر أداء موانئ الحاويات CPPI الصادر من البنك الدولي عام 2023، بسبب هجمات الحوثيين من جهة، وارتفاع كلفة الشحن إلى دول المنطقة من جهة ثانية، ولهذا فإنّ اقتراح جيبوتي منح ميناء تاجوراء لإثيوبيا، لنزع فتيل التوتّر بين مقديشو وأديس أبابا، وإعادة الهدوء إلى المنطقة، اقتراح مبرّر وفي محلّه، ويتماشى مع مخاوفَ جيبوتي في تهدئة الأوضاع الأمنية، لكنّه لم يلقَ بعد أذناً صاغيةً من قبل إثيوبيا، التي لا يغمض لها جفن إلّا بتحقيق حلمها في الوصول إلى البحر الأحمر.
في النهاية، تبدو الصومال الرابح والخاسر في آن واحد وسط معمعة هذه التحالفات الجارية، فإذا استطاعت حلّ خلافاتها مع إثيوبيا بالطرق السلمية وحقّقت الوساطة التركية اختراقاً كبيراً لإذابة جليد التوتّر بين الجارتَين، فإنّها استطاعت وبالدبلوماسية الناعمة تجنيب المنطقة حرباً مريرةً، أمّا إذا عسكرت إثيوبيا طموحها، فإنّ الخاسر الأكبر في هذه الحرب هي الصومال التي ستتحوّل ساحةَ حرب إقليمية، يدفع ثمنها الشعب الصومالي، خاصّة في إقليم أرض الصومال، في ظلّ تراجع القوانين الدولية، وسيادة منطق القوّة لحلّ النزاعات في الشرق الأوسط، بدل الحوار، انطلاقاً من مبدأ "الحرب من أجل السلام".