عن بركان الغضب في كينيا

08 يوليو 2024

متظاهر كيني يقرأ في صحيفة في مظاهرة مناهضة للحكومة في نيروبي (2024/7/2 فرانس برس)

+ الخط -

عرفت كينيا احتجاجات واسعة، منذ عام 2007، نتيجة اضطرابات سياسية تكمن أسبابها في الصراع على السلطة، والتي راح ضحيتها مئات من الكينيين، وانتهت أخيراً بوساطة أممية. وارتبط الحراك الاحتجاجي بالسياسة، ويتجدّد مع كلّ انتخابات رئاسية، ولا ينتهي من دون سقوط ضحايا أبرياء، لكنّ آخر الاحتجاجات التي تشهدها نيروبي، منذ تولي الرئيس وليام روتو السلطة في سبتمبر/ أيلول عام 2023، تختلف تماماً عما شهدته كينيا من اعتصامات دموية مفتوحة، فهذه ارتبطت بارتفاع أسعار متطلّبات العيش الأساسية، حتى أنّ لقمة "الأوكالي" المحلّية (العصيدة) لم تعد تتوفّر للجميع، نتيجة لحاجة الحكومة الكينية إلى مزيد من السيولة المالية لمواجهة التضخّم (8%) إلى جانب تسديد الديون، التي ورثتها حكومة روتو من سلفه كنياتا، التي تناهز نحو 69 مليار دولار.
ما يندى له الجبين أنّ التظاهرات الشعبية التي تقودها فئة الشباب (GEZ) أي الجيل الذي ولد بعد 1997، ترافقها أعمال شَغَبٍ وفوضى أمنية أدّت إلى مقتل 39 كينياً، وإصابة نحو مائة آخرين بجروح،إضافة إلى نحو مائتين آخرين هم في عداد المفقودين. كلّف خروج التظاهرات من سياقها السلمي إلى العنف والفوضى والنهب أصحاب المحالّ التجارية قرابة ملياري شلن كيني، وفق تصريحات الرئيس وليام روتو، وما أشعل فتيل المواجهات بين الشرطة الكينية والشباب هو القانون الذي مرّره البرلمان بفرض ضرائب جديدة على السلع الضرورية والخدمات الأساسية، ليقتحم المُحتجّون مقرّ البرلمان ويشعلوا النار في أجزاء منه، ما يعني أنّ ذروة اشتعال التظاهرات بلغت مداها، لكن المُحتجّين لم يجرؤوا بعد على اقتحام القصر الرئاسي، وهو ما قد يكلّف خسائر بشرية عديدة.

تجد الاحتجاجات في كينيا حماسة وشعبيةً بفضل مُحرّكها الشبابي، ولأنّها بلا قيادة تتشتّت جهود الحكومة في التوصّل إلى تسوية مع المُحتجّين

تراجعت حدّة الاحتجاجات الشعبية، لكنّ الغليان في شوارع نيروبي، وفي نفوس شبابها، ما زال مُتَّقداً، ما لم تُخمِد الحكومة الكينية فوران هذا البركان بمزيد من الإصلاحات المالية، وتحسين حياة الكينيين، وأن تُترجَم وعود روتو إلى حقائق في أرض الواقع، وهو ما بدأه بالفعل حين خفّض مصروفات ونفقات بعض مسؤولي الحكومة لمعالجة المخاوف التي أثارتها الحكومة بشأن البذخ بين مسؤولي الدولة، وبسياسة تقشّف قاسية تتبعها الحكومة. لكنّ هذا لا يكفي من دون خفض الأسعار ومعالجة التضخّم الذي يكبّل اقتصاد البلاد.
ميزة الاحتجاجات في كينيا أنّها تجد حماسة وشعبيةً من حين إلى آخر، بفضل مُحرّكها الشبابي، ولأنّها أيضاً بلا قيادة، وهو ما يُشتّت جهود الحكومة الكينية في التوصّل إلى تسوية سلمية مع المُحتجّين، رغم أنّ بعض الشباب تصدّروا المشهد الاحتجاجي، لكن هذا كلّف هؤلاء أثماناً باهظة بعد استهدافهم من الشرطة الكينية وإخفاء بعضهم أيّاماً، وهو السبب الذي جعل الحراك الشبابي بلا قيادة يمكن التفاوض معها، ما يطيل أمد الاحتجاجات. ويحاول روتو جاهداً تخفيف حدّة الاحتجاجات، ويَعِدُ بتأمين المظاهرات، ويَتعهَّد بمحاسبة المسؤولين وراء عنف الشرطة المُفرط ضدّ المُحتجّين، ذلك في أثناء لقاء جمع بين وليام روتو وقيادات شبابية، لكن لم يسفر هذا الاجتماع عن شيء سوى وعودٍ بالاستجابة لمطالب الشباب، وعاودت الثورة الاحتجاجية الظهور مُجدّداً وبزخم أكبر في ممباسا الساحلية، وفي نيروبي.
غول الفساد قابع في مؤسّسات الدولة الكينية كلّها، شأنها شأن دول أفريقية كثيرة، إذ تنتفع طبقة قليلة بمآثر الدولة، وتمتصّ عَرَق جبين الكادحين، يزداد الفقراء بُؤساً لدرجة لا تستطع معها سماع أنين صرخاتهم المُطالِبة بالعيش الكريم وبأصوات يخنقها الجوع والحرمان، بينما يزداد الفاسدون تُخمَةً وثراء، ما يدفع تلك الفئة أخيراً إلى احتجاجات واسعة لا تُفرّق بين التجّار والحكومة، لغتهم الوحيدة سلب ما لا يملكون، ونهب ما تطاوله أيديهم، ربّما هذه الحالة السائبة في نيروبي، وفي ممباسا، هي انعكاس لما تعانيه هذه الفئة الفقيرة والكادحة، هذه الاحتجاجات مُقدّمة لعاصفة شعبية كبيرة ما لم تُقدِم الحكومة الكينية على إنجازات قد تضمن مستقبلاً واعداً للشباب.
المفارقة في خلفيات الاحتجاجات الراهنة في كينيا ودوافعها أنّ الرئيس الكيني وليام روتو، في أثناء فترة الحملات الانتخابية الرئاسية في عام 2022، قد تَعهَّد بتحقيق جملة من الوعود في حال فوزه بالانتخابات الرئاسية، ما دغدغ مشاعر فئة الشباب وعواطفهم، ولُقّب بـ"مُرشّح الفقراء" في الميديا المحلّية والدولية، لكنّ أطلال حكومة سلفه أوهورو كنياتا ألقت على عاتق وليام روتو حملاً ثقيلاً من الديون، وفاتورةً باهظةً اقتصاديةً لا يمكن تعديل ميزانها المُتذبذب بين عشية وضحاها، وأعرب روتو في آخر خطاب له لفئة الشباب عن أنّ الوضع الاقتصادي في البلاد يتراجع إلى الوراء في حال أُلغي مشروع الموازنة المالية الجديد.ساهم الفضاء الأزرق بشكل ملحوظ في تأجيج الانتفاضة الشعبية ضدّ قانون المالية، وأصبحت منصة إكس مساحة تجمّع الكينيين في الداخل وفي الخارج، فالحسابات الوهمية تنشط وتزداد كالفطر، ويجتمع الكينيون في مساحات رقمية جديدة، ولا يمكن قطع خدمة الإنترنت في كينيا، إذ إن نقطة وصل كابلات الألياف الضوئية البحرية مع جوارها، ليشمل عواقب قطع الإنترنت محلّياً اقتصاداتِ دولٍ مثل تنزانيا ورواند والصومال. ولهذا، يتعاظم تأثير الميديا الاجتماعية، ولا يمكن قياس ارتداداته وانعكاساته في تأجيج الشارع المحلّي ضدّ قرارات الحكومة الكينيّة مستقبلاً. كما أنّ النظام الديمقراطي في كينيا، وهامش الحرّية الإعلامية، يعطيان الكينيين قدرة في توصيل رسائلهم إلى الرئاسة والحكومة الكينيّة، سواء عبر الاحتجاج رقمياً أو النزول إلى الشوارع.

إذا لم تُطبَّق وعود الرئيس الكيني في القريب العاجل، فإنّ عاصفة الاحتجاجات ستهبّ من جديد، وتختلط السياسة والقبيلة والقوى الدولية

المعضلة الاقتصادية التي يواجهها وليام روتو راهناً، تتمثّل في محورَين: أولهما ارتفاع الديون الخارجية الباهظة (69 مليار دولار)، والتي تراكمت في فترة الرئيس السابق كنياتا (2013 - 2022)، وثانيهما النمو الاقتصادي البطيء، ولا يمكن حلّ المعضلتَين بالّلجوء إلى زيادة الضرائب على الخدمات الأساسية للكينيين، لسداد الديون الخارجية التي تُعمّق خسائر السندات الكينيّة. وفي المقابل، ستؤدّي هذه الخطوة إلى تراجع نمو الاقتصاد الكيني، وتختفي المشاريع التجارية الصغيرة، وتعود حركة الاحتجاجات إلى الشوارع ودوّامة العنف ستتجدّد أيضاً. لكن، وفق خبراء اقتصاديين كينيين، فإنّ خفض الضرائب بنسبة أقلّ من 12%، وتقليل الإنفاق الحكومي، ربّما يُعزّزان قدرة الحكومة في وقت وجيز على سداد الديون الخارجية.
في النهاية، يَعِدُ الرئيس الكيني الحراك الشبابي بإجراء مزيدٍ من الإصلاحات، وخلق فرص عمل من خلال الاعتماد على الانتاج المحلّي، والحدّ من الاستيراد الخارجي، خاصّة المنتوجات التي يمكن الاستغناء عنها، إلى جانب توظيف ودمج المئات من الشباب في مؤسّسات الحكومة. لكن، إذا لم تُطبَّق هذه الوعود في القريب العاجل، فإنّ عاصفة الاحتجاجات ستهبّ من جديد، وتختلط السياسة والقبيلة والقوى الدولية في المرّة هذه، ويخشى المواطنون أن تتحوّل التظاهراتُ أعمالَ فوضى أمنية، تستهدف فئات مُعيّنة في النسق الاجتماعي الكينيّ (قبلية أو تجارية) لنسفها ونهب تجارتها، حينها تخرج الأمور عن السيطرة، ويغيب صوت العقل والحكمة، وتحلّ في محلّها الفؤوس والسواطير، التي تقطع الرؤوس ولا تبقى ولا تذر.

إعلامي وباحث صومالي
إعلامي وباحث صومالي
الشافعي أبتدون
الشافعي أتبدون: إعلامي وباحث صومالي حاصل على ماجستير الصحافة من المدرسة العليا للصحافة والتواصل في باريس، صدر له كتاب "الفيدرالية في الصومال: أطماع التقسيم وتحديات الوحدة". لديه أبحاث ومقالات منشورة في مواقع ومراكز عربية وأجنبية.
الشافعي أبتدون