قانون انتخابي على مقاس حفتر
تصاعد الجدل السياسي في ليبيا من جديد، وهو الذي لم يتوقف يوما، وهذه المرّة على خلفية القانون المنظم للانتخابات الرئاسية المزمع تنظيمها في شهر ديسمبر/ كانون الأول المقبل. فقد أعلن رئيس البرلمان عقيلة صالح عن اعتماد قانون مفصّل يضم 75 مادة، توضح كل الجوانب الإجرائية، وتفصل الشروط القانونية اللازمة لتنظيم الانتخابات الرئاسية، بل وتحدد صلاحيات الرئيس المقبل للبلاد، وتم تسليم نسخة منه إلى المفوضية الوطنية العليا للانتخابات، غير أن هذا الإجراء لم يكن خطوةً نحو حل مشكل قانوني مهم، وخطوة ضرورية للاستعداد للانتخابات، بقدر ما أعاد الجدل في البلاد إلى المربّع الأول، والمتعلق خصوصا بعلاقة المؤسسات التشريعية في ما بينها، وطبيعة الشروط التفصيلية التي تضمنها القانون المنظم لآليات الترشّح للانتخابات.
من الناحية الإجرائية، تم التشكيك في الكيفية التي تم من خلالها اعتماد قانون الانتخابات الجديد، فمن جهةٍ تمت مجاوزة المجلس الأعلى للدولة (بمثابة الغرفة الثانية للبرلمان)، ومن جهة أخرى، تم إقرار القانون خلافا للصيغ المتفق عليها، المتمثلة بضرورة تصويت 120 نائبا بالموافقة، وهو ما لم يحصل من الناحية الفعلية، ما يعني أن رئيس البرلمان عقيلة صالح قد تجاوز منطق التوافق السياسي الذي تتأسس عليه المرحلة الحالية في ليبيا، وخصوصا أن كل المؤسسات العاملة حاليا في ليبيا، وفي مقدمها مجلس النواب، قد تجاوزت الفترة القانونية لها (البرلمان تم انتخابه سنة 2014 لخمس سنوات)، وأن الشرعية المفترضة للمجلس إنما يستمدّها من الاتفاق السياسي المنبثق عن مؤتمر الصخيرات الذي جمع فرقاء الصراع الليبي في المغرب الأقصى.
الاستعجال في إيجاد نظام سياسي شكلي يقوم على غلبة أحد أطراف الحرب على البقية ليس حلا، بقدر ما هو تأبيد للمشكل
وإذا تم تجاوز الخلاف الإجرائي، على أهميته، باعتبار أن التوافق شرط لنجاح المرحلة الانتقالية في ليبيا، فإن المشكلة تكمن في تفاصيل القانون، وخصوصا في شروط الترشّح، إذ تضمن مادة مثيرة للجدل، تنصّ على أنه "يمكن لشخصٍ عسكري الترشّح لمنصب الرئيس شرط التوقف عن العمل وممارسة مهامه قبل موعد الانتخابات بثلاثة أشهر"، وأنه "إذا لم يُنتخب فإنه يعود لسابق عمله". وواضحٌ أن من صاغ المادة تعمد أن تكون مفصّلة على مقاس قائد مليشيات الكرامة خليفة حفتر، الذي أعلن بوضوح سعيه إلى بلوغ منصب الرئاسة، في ظل تحالفه مع قوى إقليمية داعمة له. ومعروف أن رئيس برلمان طبرق عقيلة صالح هو أحد تابعي حفتر، وحليف سياسي مقرّب منه، غير أن هذا التفصيل الذي يمنح مرشّحا بعينه ميزة الحفاظ على موقعه قائدا لجسم مسلّح خارج سلطة الدولة، إذا خسر في الانتخابات الرئاسية، تعني، ببساطة، التشكيك في أهمية الانتخابات ذاتها، بمعنى إذا فاز مرشّح آخر بالرئاسة، وفي تصويت شعبي حر، وظل خليفة حفتر متمسّكا بقيادة مليشياته خارج سلطة رئيس الدولة الجديد، فهذا يعني أن الانتخابات لم تكن حلا بقدر ما ستزيد في مشكلات البلاد. وفي المقابل، كيف يمكن أن نتحدّث عن شفافية الانتخابات ومصداقيتها، في وجود مرشّح يدرك الجميع أن لديه مليشيات مسلحة تخضع لأوامره، وسيعود إلى قيادتها في حال إخفاقه انتخابيا، فما الذي يضمن عدم تحوّل هذه المليشيات إلى أدوات ترهيب للناخبين، خصوصا في مجال نفوذها، أعني المنطقة الشرقية، وبعض مناطق الجنوب الليبي، وهو ما يدرك الجميع أنه ما سيحدُث فعلا.
مرحلة انتقالية تدوم ستة أشهر ليست كافية بالمرّة لإنجاز التفاهمات الضرورية
أسوأ سيناريو يحصل حاليا في ليبيا، وقد يتحوّل إلى عائق أمام تطبيع الأوضاع وخروج البلاد من نفق الحرب الأهلية، هو سيطرة طرف محدد (في هذه الحالة جناح حفتر) على صياغة القوانين المنظمة للانتخابات، واستخدام مواد هذه القوانين سلاحا في حلبة الصراع السياسي، لتمكين طرفٍ على حساب أطراف أخرى، والتسرع والانتهاء من وضع القانون، وتمريره إلى الهيئة الوطنية للانتخابات في سرعة وخفّة لا تتلاءمان مع طبيعة المرحلة، ولا التوافقات الضرورية التي تسمح بجعل هذا القانون محلّ ترحيب جميع أطياف المجتمع الليبي.
ربما كانت مشكلة ليبيا الحالية هي الرغبة الشديدة في مجاوزة المرحلة الحالية بأسرع ما يمكن، من دون أن يتم تحقيق التوافق الضروري على الآليات التي تمنع العودة إلى الفوضى والصراع المسلح الذي كان سائدا في البلاد. وأكيد أن مرحلة انتقالية تدوم ستة أشهر ليست كافية بالمرّة لإنجاز التفاهمات الضرورية، وفتح الطريق أمام تأسيس نظام سياسي منفتح ومستقر. ففي ظل استمرار زعماء المليشيات في مواقعهم، وإصرارهم على الحفاظ على نفوذهم، بل وفرضهم خوض الانتخابات وفق شروطهم، فإن أسباب استمرار الأزمة، بل واشتعال فتيل الحرب من جديد، تبقى قائمة. والأكيد أيضا أن الاستعجال في إيجاد نظام سياسي شكلي يقوم على غلبة أحد أطراف الحرب على البقية ليس حلا، بقدر ما هو تأبيد للمشكل، وهو ما لا يتمناه عموم الشعب الليبي الذي يرغب في عودة بلاده إلى حالة السلم والتعايش في كنف ديمقراطية حقيقية.