تونس وانتخاباتها المقبلة

03 أكتوبر 2024
+ الخط -

استمع إلى المقال:

أيام قليلة تفصل الشعب التونسي عن التوجّه إلى صناديق الاقتراع في الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية، في ظلّ حالة من التجاذب السياسي، وغياب حالة التنافس التي اعتادها المواطنون في انتخابات 2014 و2019، وقد شهدت عدداً قياسياً من المّرشَّحين، بالإضافة إلى نسبة مرتفعة من المشاركة الشعبية في العملية الانتخابية، فبلغت نسبة المشاركة 64% سنة 2014، وكانت 55% سنة 2019، ما يطرح السؤال عن نسبة المشاركة المتوقّعة في الانتخابات المُقبلة. وما يدفع إلى طرح هذا السؤال المواقفُ المتضاربةُ للقوى الحزبية التي دعا بعضها إلى المقاطعة في ظلّ ما يعتبرونه انعداماً للشروط الموضوعية للمشاركة، والأكثر أهمّيةً من هذا هو حالة العزوف التي شهدتها انتخابات سنتَي 2022 و2023، إذ لم تتجاوز نسبة المشاركة 11% من الناخبين.
من الممكن تحديد المزايا المحدّدة للمشاركة في الانتخابات في ما يتعلّق بأربعة معايير للشرعية الديمقراطية: موافقة المحكومين ومسؤوليتهم، والإدماج المتساوي للمواطنين، ومراقبة صانعي القرار، وتنافسية القرارات في ظلّ التعدّدية السياسية. فالانتخاباتُ ضروريةٌ في الديمقراطيات الجماهيرية، ومن هنا، وليس على الرغم منها، يجب حلّ أزمة الانتخابات لحلّ الأزمة السياسية.
في ظلّ الديمقراطية، لا يمكن للذين يضعون القوانين ويتمتّعون بسلطة قيادة المواطنين وحكمهم أن يفعلوا ذلك إلا بموافقتهم. وكثيراً ما يُنظر إلى انتخاب الحكّام باعتباره تعبيراً نموذجياً، بلّ وحتّى الضامن الحصري لهذه الموافقة، ومن خلال انتخاب صاحب السلطة يفوضه المواطنون باتخاذ قراراتٍ ملزمة باسمهم، يجب على الناخبين المواطنين الالتزام بها. وتكون إجراءات اتخاذ القرار ديمقراطيةً إذا كانت شاملةً؛ إذا كانت تضمن لجميع المواطنين مهما كان أصلهم الاجتماعي فرصةً متساويةً للمشاركة، بشكل مباشر أو غير مباشر، في صناعة القرار السياسي.
يجب علينا أيضاً أن نسأل أنفسنا ماذا سيحدث إذا أزلنا أو قلّلنا بشكل كبير من إمكانية انتخاب المواطنين لقادتهم. في الواقع، قد يُؤدّي ذلك إلى حرمان هؤلاء المواطنين من فرصة المشاركة في الحياة العامة، ومن التأثير في القرارات السياسية التي تكون في متناول الجميع، من دون أيّ شرط آخر غير أنّهم مواطنون. وهذا من شأنه أن يحرمهم بطبيعة الحال من تجربة اجتماعية مشتركة عاشوها في وقت واحد بطريقة متكرّرة ومنتظمة خلال وجودهم، تجربة الحملة الانتخابية والتصويت الذي يختتمها.

تكون إجراءات اتخاذ القرار ديمقراطيةً إذا كانت شاملةً تضمن لجميع المواطنين مهما كان أصلهم الاجتماعي فرصاً متساويةً للمشاركة

في المجتمع الديمقراطي، يجب أن يكون لجميع المواطنين الحقّ في تحدّي القرارات السياسية، وحتّى يصبح من الممكن القيام بذلك، ينبغي أن تتوفّر إمكانية محاسبة أولئك الذين يتّخذونها. ويضمن الانتخاب هذه المساءلة لجميع المواطنين ويمنح كلّاً منهم سلطة الرقابة والمنافسة. إنّ مساءلة الحكّام والنواب تُضمَن في الحدّ الأدنى من خلال حقيقة أنّ ولاياتهم مُحدّدة لفترة مُحدّدة قد لا يرغب الناخب في نهايتها في تجديد ولاية المغادرين.
غير أنّه في ظلّ التراجع الديمقراطي، وتحوّل العملية الانتخابية نوعاً من الصراع بين جهات سلطوية ترغب في السيطرة على المجال العام، والمعارضة التي تسعى إلى الحفاظ على ما تبقّى من الديمقراطية، تتحوّل قضيةُ المشاركة من عدمها سؤالاً جوهرياً سيكون المُحدّد لملامح مستقبل تونس السياسي.
والمعارضة لها نصيبها، بل وجزء كبير من المسؤوليات في جوانب عدّة. في أغلب الأحيان، تكون مشتّتةً على الرغم من أنّها تعلم جيدّاً أنّ التعاون وحده هو الذي يمكن أن يفيدها، إنّها تعتمد بشكل كبير على التوافق على القضايا الكبرى وهي أساساً الحفاظ على الديمقراطية، غير أنّ ما يحصل هو أنّها تُقوّض بسبب الخلافات غير الضرورية التي سبّبها تضخّم الأنا والشخصنة السياسية التي تسبّب مشاعرَ العداء والمنافسة غير الصحية بين أعضائها المختلفين. ولأنّها لا تنشط غالباً إلّا أثناء الانتخابات، تميل المعارضة إلى التركيز على القضايا الرمزية أو الثانوية بدلاً من الاهتمام بالقضايا الأساسية أو حلّ خلافاتها مسبقاً وبعيداً عن القضايا الانتخابية.
ولذلك، فمن الواضح مزايا تشكيل ائتلافات من قبل الأحزاب السياسية المعارضة، والاتجاه بشكل جماعي إمّا نحو المقاطعة أو المشاركة، وإذا كانت المشاركة منحصرةً في دعم مُرشَّح واحدٍ فإنّه في المقابل ينبغي البحث في مدى فعّالية مقاطعة الانتخابات على المدى القصير استراتيجيةً انتخابيةً، لا سيّما عندما تُؤدّي إلى إفشال مراحلَ حاسمةٍ معينةٍ من العملية الانتخابية. ومع ذلك، يمكن للمقاطعة أن تكون مفيدةً على المدى الطويل، اعتماداً على كيفية استخدامها وتوازن القوى الحالي. ومع ضيق الوقت المتاح وغياب مبادرات مُعلَنة للمعارضة يظلّ القرار مرتهناً بطبيعة الخيارات الشعبية، التي ستتجلّى في العزوف أو المشاركة الكثيفة، وكلاهما له نتائجه.

B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.