في هجاء "الصواب السياسي"

17 يونيو 2019

(Getty)

+ الخط -
يعرّف معجم جامعة كامبريدج البريطانية مفهوم "الصواب السياسي" (political correctness) بإيمان معتنقه بأن لغة التخاطب والممارسة يجب ألا تكونا استفزازيتيْن للمخاطَب، أكان فرداً أو جماعة دينية أو قومية أو ثقافية أو سياسية، فيتحول الحُكم على ما يقوله أيّ كان، من تدقيق في جوهر الكلام، إلى تتبع للمصطلحات المستخدمة، للإشارة إلى معنىً سياسيٍّ ما، كقول ضيفٍ على شاشة تلفزيونية لزميل يعارضه، إن "كلامك يفتقد إلى الدقة"، بينما كان يمكن أن يكون أكثر صراحةً، ويواجهه بمثل "أنت كذاب ومزوّر للحقيقة". 
في العقد الثامن من القرن الماضي، مع صعود الشعبويات، خصوصاً اليمينية منها في الغرب، ربما كان "الصواب السياسي" أكثر من ضروري، بما أنه كان يجب الوقوف في وجه تلك التيارات الباحثة عن مشروعيتها في انتعاش القوميات والوطنيات والهويات الدينية والطائفية، إثر مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، والشعور الأوروبي العام بالذنب حيال كل ما يذكّر بالنازية والفاشية والحرب. ولكن ذاك "الصواب السياسي" اليوم صار يواجه، كحال والده الشرعي، أي الديمقراطية، مساءلةً واسعة النطاق مع التقدّم الهائل للفاشيات الجديدة واليمين المتطرّف عموماً: فمثلما لا يزال يصعب الحسم في ما إذا كان يجب السماح للنازيين بالوصول إلى الحكم عبر انتخاباتٍ شفافة، أي بأدوات الديمقراطية، ليقضوا بدورهم على الديمقراطية التي أوصلتهم إلى ما وصلوا إليه، يبقى أيضاً بلا جوابٍ سؤالُ وجوب مواجهة العنصريين الجدد في كل مكان، بلغة "صائبة سياسياً" تتفادى إشعارهم بأي تمييزٍ ضدهم، وتصرّ على احترام رأيهم وكأنه رأي أصلاً، لا خطاب كراهيةٍ يحرّض على القتل والاعتداء والتهميش والتمييز بين البشر على أسس لون البشرة والديانة واختلاف الثقافة واللغة.
تُطرح تلك الإشكالية اليوم في مواجهة كل الفاشيين الجدد، في الغرب وعندنا. ولنا هنا نصيبٌ في لبنان مع وزير الخارجية، جبران باسيل، وأتباعه، وهم للأسف كثيرون. الظاهرة الباسيلية وُلدت من رحم دفن كل ما يتعلق بالصواب السياسي في تعريفه الأكاديمي إياه (حسب كامبريدج) لناحية الحرص على عدم إشعار أي مجموعةٍ بشريةٍ بأي نوعٍ من التهميش من خلال خطاب وممارسة استفزازيين أو "عدائيين". وعندما يكون سياسيٌّ مثل باسيل، وهو ثاني أقوى شخصية عامة في هذا البلد بعد حسن نصر الله، يجاهر بخطابٍ عنصريٍّ بداعي الوطنية، ويوفّر الغطاء السياسي والإعلامي والأمني للاعتداء على عمالٍ سوريين ولاجئين فقراء في لبنان، بهدف الحفاظ على النقاء الجيني للبنانه، على ما يخبرنا بوتيرة يومية، فهل ينفع التزام خصومه وخصوم تياره اليميني المتطرّف بأصول "الصواب السياسي"، وعدم تسمية الأمور بأسمائها الأصلية من دون تدوير زوايا وتنعيم ألفاظ؟ أليس إشعار هؤلاء بأنهم منبوذون فعلاً، لا بل مكروهون، واجباً على كل مواطن أو مقيم في هذا البلد، لديه حقوق وواجبات نابعة من إقامة شرعية ودفع ضرائب واحترام قوانين، من دون أن يتفاخر بتفوقٍ جيني وسموّ ديني ــ ثقافي ــ تاريخي متخيَّل؟
تُطرح هنا أزمة أخرى مزدوجة: قانونياً، أسهل بكثير على السلطات اللبنانية الأمنية والقضائية ملاحقة معارضي هذا الخطاب، في حال كان صريحاً واضحاً "غير صائبٍ سياسياً". أما النقطة الثانية، وهي الأخطر، فهي تُختصر بأن الخروج عن الخطاب الصائب سياسياً في مواجهة أدبيات الحاكم العنصري، ربما لا يجد حاضنةً شعبيةً واسعةً بما يكفي لتوفير الحصانة للمتحدثين باسم غير العنصريين، وهنا الطامة الكبرى في حال صحّت تلك النظرية، لأن ذلك لن يعني إلا أن خطاب باسيل يعبّر بالفعل عن طيفٍ واسع من اللبنانيين، ومن مختلف الطوائف والمناطق، يحاكيهم ويحكي باسمهم. لذلك ربما يكون فعلاً المرشح الأقوى لخلافة والد زوجته في رئاسة الجمهورية.