فشل المقاربة الوطنية في التغيير
سؤالان محيّران طرحهما كثيرون من المثقفين والسياسيين والكتاب العرب، وما زالوا يطرحونه: لماذا تظل أوضاع العرب على هذا النحو من السوء والانحدار المريع على جميع الأصعدة والواجهات، رغم تعدّد محاولات التدارك والنهوض منذ تجربة محمد علي في مصر بداية القرن التاسع عشر؟ ولماذا ظلّ العرب يراوحون مكانهم، إن لم يمعنوا السير أكثر نحو مزيد من الانتكاس والارتكاس في جميع أحوالهم ومعاشهم، هذا في وقتٍ تتعافى فيه أمم كثيرة من حولنا، بما في ذلك في الجوار الإسلامي المباشر؟
ليست هذه المقالة في معرض تشخيص مسألة النهوض وشروطه، ولا تحديد أسباب الإخفاق والتعثر، فهذا مبحث كبير يحتاج تحبير المجلدات من مختلف الباحثين والمتخصّصين، ولكن المُراد هنا تسجيل خلاصات عامة من وحي التجربة السياسية العربية، خصوصا من سياق مرارات ما عرف بالربيع العربي، علّها تساعد على إنارة الوعي الجمعي وتصويب المسير السياسي العربي نحو الوجهة السليمة في المستقبلين، القريب والبعيد.
الواضح عند كاتب هذه السطور أن المدخل المحلي القُطري للتغيير والإصلاح قد وصل إلى طريق مسدود في أكثر من موقع من العالم العربي، بحكم حالة الترابط الجيوسياسي والاستراتيجي بين مختلف فضاءات الرقعة العربية، بما يجعل من العسير عزل بعضها عن الآخر. في مصر أجهضت ثورة 25 يناير بانقلابٍ مكتمل الأركان، قاده العساكر تحت عنوان تصحيح مسار الثورة واسترجاعها من القوى التي حرفتها عن مسارها وأفقدتها طهوريّتها الأصلية المزعومة، ثم انعطف الخطاب الانقلابي باتجاه الحمل على ثورة 25 يناير جملة وتفصيلا، وتحميلها كل الانحرافات والإخفاقات. وفي اليمن، تمت إعادة تأهيل نظام علي عبد الله صالح للانقضاض على ثورة الشباب من "محور الخليج"، وكان ذلك بعد أن تم تحريك كل بؤر الصراع السياسي المختلط بالاعتبارات الطائفية والمذهبية، فتدحرج البلد نحو حربٍ أهليةٍ مدمّرة ما زال يعيش في رحاها. وفي ليبيا، تحوّل الصراع السياسي على الحكم إلى نزاع مسلح مختلط بأبعاد جهوية وقبلية غذّته القوى المناوئة للثورات العربية. وفي سورية، دخل الجميع على الخط لحساباتٍ تتعلق بـالاصطفاف الإقليمي والصراع المفتوح مع إيران، وليس حبّا في ثورة السوريين. وفي المغرب، استعاد المخزن زمام ما افتقده من سلطة لصالح أحزاب المخزن، بإعادة تصعيد أحزاب الإدارة الموالية. وأخيرا تم الإجهاز على آخر حلقات الربيع العربي في تونس بعد خنقها ماليا واقتصاديا عبر تسلل الثورة المضادة بقيادة رجل مغمور ومغامر، وتحت وابل من الشعارات الثورية الكاذبة.
لم تتردّد دول الثورات المضادّة في تكوين غرفة عمليات مشتركة لتنسيق جهودها السياسية والأمنية والاستخباراتية
قد يكون للقوى السياسية التي تقدّمت العملية السياسية بعد الثورة نصيب من المسؤولية في ما آلت إليه الأوضاع. ويجب أن يقيّم هذا الأمر بموضوعية وتوازن، بعيدا عن تصفية الحسابات الأيديولوجية ونزعات التشفّي، ولكن يبدو لي أن المسألة كانت وما زالت أكبر بكثير من هذه القوى، وأوسع مدىً من حدود الذكاء السياسي وشطارة الفاعلين. إنها تتعلق بطبيعة هذه الثورات، أو الانتفاضات الكبرى، وسياق التوازنات الدولية والإقليمية التي كانت تتحرّك ضمنها. ربما كان في مقدور العمل السياسي الإرادي والحصيف أن يعدّل قليلا أو كثيرا المشهد، ويقلّل من منسوب الخسائر، ولكن لم يكن في مكنته، في كل الأحوال، تخطّي السقوف العامة وتوازنات القوة الصلبة والقوة الناعمة على الأرض، ودليل ذلك تشابه النتائج رغم اختلاف الأوضاع وتفاوت الأداء العام للقوى السياسية في دول الربيع العربي.
نخلص مما سبق إلى القول إن الانتكاسات الدرامية في مشهد الثورات ما كان لها أن تحدُث بتلك الصورة المريعة، لولا وجود تدخلات إقليمية هائلة ومتقاطعة مع أجندات دولية بالغة الوطأة والشراسة، كانت تتربّص شرا بالثورات العربية منذ البداية، خصوصا وأنها رأت فيها تهديدا وجوديا ماحقا لا يمكن التعايش معه. وما زاد في خطورة الوضع هو التحالف الواعي والموضوعي الذي تم بين هذه القوى الإقليمية ومكونات كثيرة استئصالية صمّمت بدورها على إسقاط التجربة بأي ثمن مستفيدة من مناخ الديمقراطية الذي أتاح لها الحديث والتحرّك.
ولعل أكبر الأخطاء التي وقعت فيها قوى التغيير في تجارب الربيع العربي لا تتعلق بالمسألة الديمقراطية أو نزوعات التغوّل كما يشيع بعضهم، بل ربما تُلام على فائض ديمقراطيتها وإتاحة الفرصة لخصوم الثورة وأعداء الديمقراطية للتسلق عبر السلم الديمقراطي، ثم كسره على نحو ما فعل قيس سعيّد في تونس، والأخطر من ذلك تجاهلها قوانين الجغرافيا السياسية، وغياب الرؤية الكلية العابرة حدود الدولة القُطرية أو الوطنية (سمّها ما شئت)، ومردّ هذا التقوقع القُطري كثرة التحوّط من تهمة وجود أجندة أممية إسلامية أو مخطّط عربي عابر للدولة الوطنية، ففي وقتٍ كانت فيه تغرق بلدان الربيع العربي في تعقيدات الأوضاع المحلية في مرحلة تحوّل قلقة وعسيرة، كانت الأطراف المناوئة لثورات الربيع العربي، وهي متنوّعة ومتناقضة أحيانا، تشتغل بالليل والنهار وفق أجندةٍ موحّدة وبأبعاد دولية واسعة، بهدف إرباك هذه الثورات وقضمها تدريجيا حلقةً بعد أخرى، قبل أن تتجه إلى إسقاطها والتخلص منها جملة وتفصيلا.
التغيير في العالم العربي بالغ التعقيد، وتتداخل فيه معطيات الجغرافيا مع تأثير دولة الاحتلال الصهيوني وعامل النفط والتدخلات الخارجية
لم تتردّد دول الثورات المضادّة مثلا في تكوين غرفة عمليات مشتركة لتنسيق جهودها السياسية والأمنية والاستخباراتية، وضخّت الأموال واستخدمت الإعلام، وفعلت كل شيء لتلويث هذه الثورات والإجهاز عليها. مقابل ذلك، كانت القوى الجديدة التي تصدّرت المشهد تغرق في المتاهات الداخلية، وهذا يعني أن الثورة المضادّة ورغم ما تمتلكه من قدراتٍ مالية ومؤسّساتية هائلة كانت أكثر وعيا بمعطيات الجغرافيا وقوانين السياسة في المنطقة من القوى التي تصدّرت عملية التغيير.
يعطينا هذا مؤشّراتٍ دالة على طبيعة المنهج المطلوب توخّيه والمسلكيات السياسية المفترض اتباعها في المستقبل القريب والبعيد، والذي يجب أن يكون منهجا ذا بعد عربي شامل وممتدّا أفقيا وعموديا، فلا حلّ للواقع العربي المركّب والمعقّد إلا بوجود مشروع إصلاح عربي عابر لحدود الدولة الوطنية، تساهم فيه مختلف القوى السياسية والشعبية العربية، كلٌّ بحسب الجهد والطاقة. ومن دون وجود حاضنة عربية سيتم حتما خنق أي مبادرةٍ في التغيير أو الإصلاح حاضرا أو مستقبلا، بقوة النفط وكثرة المؤامرات والدسائس وتأثير المعطى الصهيوني الممتدّ في شرايين المنطقة ومفاصلها، فإما أن يكون هناك مشروع خلاص عربي عام وشامل، أو لن يكون أي شيء، ودع عنك مقولة الأردن أولا ولبنان أولا وتونس أولا إلى آخر السلسلة بزعم الدفاع عن السيادة الوطنية، فهذه كذبة كبيرة لن تصمُد أمام تعقيدات الجغرافيا السياسية. وفي الغالب، تنتهي إلى إسرائيل وحلفائها أولا وآخرا.
ربما كان من المشروع التماس المعاذير عن مواطن القصور في الفهم والإخلال في السلوك السياسي في سياق الموجة الأولى للثورات العربية، بحكم فجائية التغيير وقلة الخبرة، ولكن اليوم وبعد ما يزيد عن عشرية من مرارة الثورة المضادّة وعذابات السجون والتشريد التي عادت لتخيم على المشهد العربي، لم يعد هناك ما يبرّر عدم استخلاص الدروس وامتلاك العدّة الفكرية والسياسية المطلوبة استعدادا للمستقبل. وحتى إذا عجز هذا الجيل عن تحقيق الأهداف المرجوّة، فلا أقل من أن نورّث شبابنا العربي دروس المرحلة الماضية ونمدّهم بالخبرة اللازمة وخلاصات التجربة استعدادا للتحولات المقبلة.
الواضح عندي أن الوضع العربي الراهن مشرقا ومغربا لا يمتلك مقوّمات الصمود والاستمرار طويلا. وليست هذه القراءة مبنيةً على تخرّصات أو تمنّيات بل هذا ما تنطق به المؤشّرات السياسية والاقتصادية والأمنية الراهنة، وكل ارتسامات الواقع العربي المأزوم.
المدخل المحلي القُطري للتغيير والإصلاح وصل إلى طريق مسدود في أكثر من موقع من العالم العربي
صحيح أن قوى التغيير تم ضربها وتعطيل مسيرها ولم تقو على بلوغ أهدافها، ولكن على الجهة الأخرى القوى التي جاءت على أنقاضها هي الأخرى أكثر تأزّما وأشدّ تآكلا وهي تقترب من بلوغ منتهاها، بعد أن نضبت قوتها وتبدّدت وعودها.
التغيير في العالم العربي بالغ التعقيد، وتتداخل فيه معطيات الجغرافيا مع تأثير دولة الاحتلال الصهيوني وعامل النفط والتدخلات الخارجية. ولذلك يحتاج إلى طول نفس ودرجة عالية من الفهم ومن المراس والخبرة. المعالجة الديمقراطية المحلية لن تصمد كثيرا أمام هذه القوى الشرّيرة، لأن المسالة لا تتعلق بمجرّد دمقرطة لدول منهكة وبلغت درجةً عالية من التوحّش. والبديل عن ذلك مقاربة عربية شاملة تتّخذ من مطلب الإصلاح بمعناه الشامل مدخلا لها. وهذا يعني استعادة فكرة الرابطة العربية مع تخليصها من النزعات الأيديولوجية الشمولية للقوميين العرب ومصالحتها بالعمق الإسلامي، وفق بدايتها الأولى مع جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا وعبد الرحمن الكواكبي وعبدالله النديم وعبد العزيز الثعالبي وغيرهم.
من هنا، بادرنا إلى تكوين شبكة الوعي العربي، ووضعنا في مقدّمة أهدافها وأولوياتها المساهمة في بناء مشروع عربي مستقبلي عابر للمقاربة القُطرية الضيقة، مشروع يساهم فيه المثقفون والمفكرون والنشطاء وسائر قوى السياسية والاجتماعية العربية، كلٌّ بحسب جهده وطاقته، فنحن على أشد الاقتناع بأن قدر العرب إما خلاص جماعي يشمل الكلّ أو التمادي في غرق جماعي يجرف الجميع.