غزّة... التطبيع مع الجريمة
تتأسّس الطبيعة اللاأخلاقية للحرب في القصدية بارتكاب الجرائم، في مقابل إنتاج حالةِ تماهٍ فئوية أو جمعية، تدفع نحو التطبيع مع الجرائم، وذلك من خلال تقصّد تعطيل المبدأ الأخلاقي الذي يدينها، وهو ما يختزل سردية الحرب الدائرة في قطاع غزّة حتى الآن، إذ لا يمكن فصل المجازر اليومية التي تُرتكَب بحقّ الفلسطينيين عن إرادة القتل الإسرائيلي الممنهج، الذي يستند إلى حالة مروّعة من التطبيع مع جرائمها، والذي مكّنها، ليس من استدامة جرائمها بحقّ الفلسطينيين فقط، بل تعطيل أيّ إمكانية لملاحقتها ووقف مجازرها، فضلاً عن ربط وقف الحرب في غزّة بالشروط الإسرائيلية.
بديهياً، تدور أيّ حرب في العالم بين أطراف متعيّنة، تكون متكافئةً إلى حدّ ما في قوتها، بحيث يمكن تتبّع قواعد الاشتباك وقياس أدوات الردع المتبادل، والأكثر أهمّيةً رصد الجرائم التي تطاول المدنيين، بهدف قياس مدى التزام المتصارعين بحماية المدنيين، التي تكفلها القوانين الدولية في الحروب، إلا أن الحرب الدائرة في قطاع غزّة، تبعاً لمعادلة الصراع اليومية ونتائجها، هي حرب تدور من طرف واحد، لكنّها تشمل بفظاعتها وجرائمها وعنفها المجتمع بأسره، إذ إن مبرّرات القضاء على حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، الذريعة التي استخدمها الكيان الإسرائيلي لشن حربه على غزّة، باتت حرباً يوميةً شاملةً ومنهجيةً تجاه الفلسطينيين، من دون تمييز بين المدنيين والمقاتلين، ولا بين البنية المدنية التي تقتضي حمايتها في أيّ حرب، والبنى العسكرية. ومع أن السياسة العنصرية الإسرائيلية حيال الفلسطينيين تنسجم مع عقيدتها الاستعمارية دولةَ احتلال، فإن القسرية في استخدام أدوات القوة الضاربة، التي تستهدف أرواح المدنيين والمسنودة بغطاء سياسي من حلفائها، جعلها تعطّل أيّ مستوىً أخلاقيٍّ لوقف جرائمها في حقّ الفلسطينيين، ناهيك عن مساءلتها قانونياً، ومن ثمّ الاستمرار في تعويم حالة العنف وتأبيده، بما في ذلك تثبيت حصارها الاقتصادي والإنساني على قطاع غزّة، وتحويل إجراءاتها القهرية في حقّ المدنيين شرطاً يومياً ودائماً للحياة. وإذا كانت نتائج عملياتها العسكرية في غزّة قد حوّلت القطاع أرضاً محروقةً وغير صالحة للحياة، فإن عمليات الجيش الإسرائيلي لم تتوقّف، بل اتّخذت نمط حرب مفتوحة متعدّدة ومستمرّة، من شنّ عمليات عسكرية على مدن شمال القطاع بهدف إنشاء نطاق جغرافي عازل، إلى قصف مدن وسط القطاع وجنوبه، فضلاً عن استهداف المربّعات السكنية وتحويلها منطقةً عسكريةً ترتّب عليها تصاعد وتيرة جرائمها في حقّ الفلسطينيين، إلى جانب خضوعهم لدورات متعاقبة ومستمرّة من التهجير والنزوح الداخلي.
استمرار عمليات الجيش الإسرائيلي في قطاع غزّة، وتوسيع قائمة بنك أهدافه، يتلاءمان مع الاستراتيجية الرسمية التي تتبنّاها الحكومة الإسرائيلية في إطالة أمد الحرب
في مستوى آخر من الجرائم، وأيضاً من القصدية في القتل، تعتمل سياسة العقاب الجماعي التي تنتهجها دولة الكيان الإسرائيلي في حقّ الفلسطينيين في تكريس حالة غير مسبوقة من العنف الموجّه، والتسبّب بتأبيد معاناتهم. فإلى جانب أوامر الإخلاءات الدورية التي تطاول الفلسطينيين في مدن القطاع بعد كلّ عملية للجيش الإسرائيلي، التي تعني فقدانهم للمأوى المؤقّت، ومواجهتهم لظروف لاإنسانية تتجاوز شتات الأسر إلى فقدانهم وسائل النجاة، عمدت دولة الكيان إلى تعطيل إمدادات الحياة أمام الفلسطينيين المحاصرين في القطاع، وإدارتها لتكريس سياستها العقابية. ففي حين أفضت حربها المدمّرة على قطاع غزّة إلى تحويل معظم السكّان قوىً معطَّلةً ومشرَّدةً في مخيّمات النزوح، الأمر الذي عوّم حالة الفقر ووسّع نطاقاتها، فإن الخسائر البشرية جرّاء الحرب الإسرائيلية على غزّة أدّت إلى فقدان معظم الأسر الفلسطينية مُعيلها، وهو ما جعل تأمين التدخّلات الإنسانية شرطاً ضرورياً للبقاء في قيد الحياة، إلا أن إدارة الكيان الإسرائيلي للأزمة الإنسانية المتفاقمة في قطاع غزّة تشكّل جريمةً أخرى ضدّ الإنسانية، إذ إن عسكرة القطاع وتجريف السلطة المحلّية، ممثّلاً بحركة حماس، ترتب عليهما غياب شبكاتٍ فاعلةٍ تنظّم عملية توزيع المساعدات الإنسانية، في مقابل تحويل سلطة الكيان الإسرائيلي جهةً رئيسةً تتحكّم بدخولها، إذ وظّفت ذلك لتجويع الفلسطينيين. فإلى جانب استمرار إعاقة دخول المساعدات الإنسانية إلى مدن قطاع غزّة، عبر عسكرة المنافذ التي تسيطر عليها، وفرض إجراءات رقابية مشدّدة، فإنّها رفعت مستويات المخاطر التي تتعرّض لها الإمدادات الإنسانية، وذلك بتعمّد استهدافها مباشرةً، ناهيك عن رفع الغطاء عن المنظّمات الإنسانية الفاعلة على الأرض واستهدافها وتقييد أنشطتها، الأمر الذي نقل الأزمة الإنسانية في عموم مدن قطاع غزّة إلى المستوى الأخير من المجاعة. ومن جهة ثانية، فإن شمولية الأهداف العسكرية الإسرائيلية في القطاع، وعدم تحييدها أيّ موقع إنساني ومدني آمن يلجأ إليه الفلسطينيون، بما في ذلك المناطق التي يُحدِّدها الجيش الإسرائيلي مناطقَ آمنةً من وقت لآخر، ترفع مستويات جرائمه ضدّ الإنسانية. وإذا كان استهداف المخيّمات ظلّ نمطاً لآلة القتل الإسرائيلية، فإن الجيش الإسرائيلي لم يكتفِ بذلك، بل نقل معركته إلى المستشفيات، التي باتت ساحة معركة، فاستهدف أخيراً مستشفى كمال عدوان في بيت لاهيا، وإن أتى ذلك تحت ذريعة استخدامه مركزاً عسكرياً من مقاتلي "حماس"، إلا أن نزع الحماية عن مرفق صحّي وتحويله هدفاً عسكرياً يشكّل جريمةً ضدّ الإنسانية، فإضافة إلى اعتقال أكثر من 240 من روّاد المستشفى من المرضى والطاقم، فإن استهداف آخر مستشفى في شمال قطاع غزّة، وفي ظلّ تدمير المنظومة الصحّية، يعني القصدية في قتل المواطنين، بحرمانهم من الحصول على العلاج ومضاعفة مستويات الوفيات الناجمة من الأمراض، بما في ذلك الفئات المحتاجة للرعاية من كبار السنّ إلى حديثي الولادة.
تتحرك الحكومة الإسرائيلية من دون أيّ ضغوط سياسية خارجية، فتضمن استمرار حرب مفتوحة مشروطة بتحقيق أهدافها
إن استمرار عمليات الجيش الإسرائيلي في قطاع غزّة، وتوسيع قائمة بنك أهدافه، يتلاءمان مع الاستراتيجية الرسمية التي تتبنّاها الحكومة الإسرائيلية في إطالة أمد الحرب، وتعني في ظلّ التحدّيات الداخلية التي تواجهها، استثمار غزّة موقعَ تهديد وجودي لإسرائيل، لتحقيق مكاسب عسكرية، وسياسية أيضاً، إذ إن تثبيت الوضع العسكري في قطاع غزّة حرباً مفتوحةً ضدّ حركة حماس، بما في ذلك شنّ عمليات عسكرية دورية لإعاقة تنظيم صفوفها، يجعل القطاع خاضعاً فعلياً لسلطة الاحتلال، أي فرض أمر واقع بشكل تدريجي، واستثماره الآن وفي المدى البعيد، ليتيح لها التمسّك بالخيار العسكري، لا خياراً للتفاوض مع "حماس" وإنجاز صفقة الرهائن، بل لضمان استمرارية الحرب في غزّة، وعدم ربطها بأيّ سياق تفاوضي، وهو ما يمكّنها من الاستمرار في استهداف مدن القطاع، إضافة إلى أن تقويض أيّ إمكانية وجود قوة محلّية فلسطينية في غزّة، تدير مؤسّسات السلطة في ظلّ ربط إسرائيل وجود السلطة بتفاهمات مرحلة ما بعد الحرب، يجعل تقرير مصير غزّة ومستقبلها شأنان سياسيان إسرائيليان، إضافة إلى تحولّها (إسرائيل) قوةً فاعلةً على الأرض في الوقت الحالي يعني استدامة الواقع اللاإنساني الذي تعوّل عليه لإخضاع الفلسطينيين. ومع أن الحكومة الإسرائيلية، وأيضا حركة حماس، تسعيان إلى استباق تنصيب الرئيس الأميركي دونالد ترامب لإنجاز المرحلة الأولى من صفقة الرهائن، فسواء تمّ ذلك أم لا، فإن الحكومة الإسرائيلية التي تدعمها الإدارة الأميركية، سواء الحالية أو القادمة، تتحرّك في موقع مريح، وبمعزل عن أيّ ضغوط سياسية خارجية تجبرها على وقف الحرب في غزّة، وبالتالي ضمان استمرار حرب مفتوحة وغير مقيّدة بزمن مُحدَّد، ومشروطة بتحقيق أهدافها.
غزّة قطاع منفصل، ليس عسكرياً فقط، بل وإنسانياً، هنا كلّ القوانين الإنسانية والأخلاقية معلّقة حتى إشعار آخر، فيما تبقى جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية هما القانون الإسرائيلي الذي يحكم إيقاع الحياة اليومية للفلسطينيين، ولا يجعلهم هدفاً متاحاً للقتل فقط، بل يجيز تدمير كلّ مقوّمات الحياة الممكنة أمامهم، من المستشفيات إلى مخيّمات النازحين، في مقابل التطبيع مع جرائمه، وتحويل إرادة القتل والإبادة أفعالاً عاديةً، ففي عام آخر تنتظم الدورة الزمنية لقتل الفلسطينيين، وتصبح إمكانية النجاة مهمّةً شاقّةً، وربّما مستحيلةً.