هذه التحولات العاصفة في سورية
يحيل فشل تجارب مشاريع التغيير في المنطقة إلى تحدّيات ما بعد إسقاط الأنظمة، بحيث قد تدفع جملة من العوامل إلى عرقلة عملية التغيير وضمان ترتيب الانتقال السلمي للسلطة، بتحويله إلى مسار ارتدادي من العنف والفوضى، فإلى جانب الواقع السياسي والاجتماعي الذي قد يعيق إمكانية تجاوز المجتمع صراعات الماضي، فإن إعادة إنتاج الطغيان بتحالفات الهيمنة والانتقام، سواء من معسكر المنتصرين أو المهزومين، تعني الدفع نحو دورة جديدة من الحرب الأهلية، إلى جانب نفوذ المتدخلين، وإشكالية الحامل السياسي الذي يتصدّر عملية التغيير وافتقاره لرؤية جامعة تمثل المواطنين، ومن ثم فإن إسقاط نظام بشّار الأسد، وإن شكّل لحظة تاريخية فارقة في الانتصار على الاستبداد، وتحدّيات عملية التغيير في سورية أكثر خطورة من أي بلد عربي آخر شهد تحوّلات مماثلة، لتعقيدات الوضع الداخلي، وأيضاً عمق نفوذ المتدخلين وتعدّدهم، فضلاً عن استثمار الكيان الإسرائيلي حالة الفراغ السياسي في سورية.
في حالة المجتمعات العربية عموماً، يظلّ إرث الأنظمة الاستبدادية التحدّي الأكبر الذي يعيق عملية التغيير، من ممارساته السلطوية في حق المجتمع إلى نتائج علاقاته الداخلية والخارجية على مستقبل الدولة، وإذا كان الطابع البوليسي لنظام حكم أسرة الأسد في سورية، على مدى نصف قرن، قد جذّر من سطوة نظام دموي استبدادي، دفع السوريين كلفته من الإبادة والقتل والإخفاء وتدمير المدن وتهجير أبنائها، بالإضافة إلى شتات السوريين في الخارج، فإن هوية النظام الطائفي وحرصه على بقائه في السلطة، على الضد من رغبة السوريين، قد نجم عنهما واقع شبه دائم، انتزاع سيادة سورية واستقلالها، ففي مقابل الحماية، منح حليفيْه، الإيراني والروسي، امتيازات سيادية على الأرض، فيما دفع خصومه المحليين إلى تشبيك علاقات مع متدخلين إقليميين، إلى جانب القوى الدولية الأخرى التي تتقاسم الآن الجغرافيا السورية، كما أن العقوبات الاقتصادية على نظام معزول فاقم الانهيار الاقتصادي وتنامي الفقر في المجتمع، إلى جانب أن القمع السياسي (والمجتمعي) الذي كرّسه النظام عطّل استقرار البنى المدنية التي تمثل في أي مجتمع الضامن الحقيقي للتحوّل إلى مسار ديمقراطي، ومن ثم كانت حصيلة حكم سورية الأسد دولة بلا سيادة ومفرغة من المقدّرات.
يقتضي ضمان عملية التغيير، وتثبيت انتقال السلطة في سورية، وفي هذه الحالة من نظام بشّار الأسد الى إدارة المرحلة الانتقالية التي تزعمها هيئة تحرير الشام، تثبيت سيادة الدولة وإقامة سلطة مركزية موحّدة تسيطر على الأرض وعلى الثروات وتديرها لصالح السوريين، لكن الحقائق الحالية على الأرض هي سورية مقسّمة بين قوى دولية وإقليمية وتنظيمات مسلحة عديدة، ما يجعل إعادة توحيد سورية عائقاً حقيقيا أمام الإدارة الانتقالية، فمن الوجود الروسي على الأرض، من خلال قواعدها العسكرية، الى القواعد الأميركية، وبالطبع النفوذ التركي من خلال قواتها، وحلفائها المحليين من هيئة تحرير الشام إلى الجيش السوري الحر، إضافة إلى الفصائل المحلية التي تتوزّع السيطرة على الأرض، من جيوب تنظيم الدولة الإسلامية، إلى القوات الكردية في شمال سورية، ومن ثم، فإن هيئة تحرير الشام، وبوصفها سلطة انتقالية، لن تدير سورية موحّدة، ومن ثم فإن استمرار هذا الشرط لا يضمن، في أي حال، ولادة سورية جديدة مستقلة، بل استمرار هيمنة القوى الدولية والإقليمية على راهنها ومستقبلها، فضلا عن تحدّيات إحلال النموذج الإسلامي السني لسورية الانتقالية، بدل "النموذج العلماني" الذي كان يصدره نظام الأسد.
الانتقال من العمل المسلح الى إدارة المرحلة الانتقالية في سورية، يضع هيئة تحرير الشام في اختبارٍ صعب، داخليا وخارجيا أيضاً
الصعود اللافت لهيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) إلى سلطة تدير المرحلة الانتقالية تحولٌ جذريٌّ في المشهد السوري وفي الإقليم. داخليا، أنضجت الديناميكيات والدعم العسكري التركي، إلى هيمنة هيئة تحرير الشام على الفصائل المسلحة المعارضة لبشّار الأسد، الى جانب التجربة العسكرية لكونه فصيلا كان يتبع تنظيم القاعدة، كما أن حالة العنف الشاملة التي شهدتها سورية طوال عقد من حرب نظام الأسد، وعسكرته الحياة وفرضه الصراع المذهبي على السلطة، كل ذلك أدّى إلى تصعيد الفصائل الراديكالية المسلحة السنية بوصفها معادلا موضوعيا لإدارة القوة مع نظام طائفي، كما أن هيمنة الحزب الواحد على مفاصل الحياة السياسية والاجتماعية في سورية خمسة عقود، ممثلا بحزب البعث السوري الحاكم، ومنع التعدّدية والعمل السياسي المدني أدت الى دفع التنظيمات السياسية الى الهامش، بل وتبنّي بعضها الخيار المسلح وسيلة للتغيير وإزاحة النظام، إلا أن التنظيم، وأيضا التمويل والدافعية، حسم الكفّة لصالح الفصائل الراديكالية، وفي مقدّمتها هيئة تحرير الشام، إلى جانب دورها المحوري في إسقاط نظام بشّار الأسد، ما جعلها البديل المؤهل لإدارة المرحلة الانتقالية، باعتباره استحقاقاً سياسياً لها، وأيضا تغيير نموذج السلطة من النموذج العلماني إلى نظام مخلوع الى نموذج إسلامي سنّي، وإن أدّى هذا إلى صبغ السلطة الجديدة بهوية دينية. ومع أن الهوية الطائفية للنظام السوري الذي استند إلى تسيد الطائفة العلوية التي ينتمي لها في مفاصل الدولة السورية، إضافة إلى علاقته التحالفية مع إيران التي تحكمها أيضاً اعتبارات الانحياز للطائفة، قد جعلت الطابع الطائفي- الهوياتي- يهيمن على الصراع على السلطة، ومن ثم متوقع في الحالة الاستبدالية، أو الثورية، البحث عن نموذج مناقض لنظام سابق. وتسييس منجز التغيير في سورية، وصبغه بصبغة هوياتية دينية، له مخاطر عديدة، فإلى جانب مخاطر أسلمة الدولة، وتديين مظهر الحياة في سورية، يصعّد هذا التحول الراديكالي في السلطة، وفي ظرف حسّاس، مخاوف الطوائف والأقليات في المجتمع السوري، وأيضا مخاوف المجتمع الدولي الذي يراقب عملية التغيير، إذ إن هيئة تحرير الشام، وإن حاولت تقديم نفسها تياراً إسلامياً معتدلاً لضمان اعتراف المجتمع الدولي بها سلطة مؤقتةً انتقالية، فإن تجارب الإسلام السياسي، على اختلافها، أثبتت فشلها في إدارة عملية التوازن السياسي والمجتمعي في مرحلة التحوّلات، وضمان انتقال سلمي يحقّ استقرار السلطة، ويهدّئ مخاوف القوى المناوئة لها، إضافة إلى أن توليها السلطة، وفي هذا التوقيت، يعزّز المنحى الاستقطابي القائم على الصراع المذهبي بتمكين القوى السنية في السلطة وان كانت أكثرية في المجتمع، قوى منتصرة، ضد نظام مهزوم، وحلفائه، والتي تعني الأقلية العلوية، ومن ثم تكريس استمرارية التوترات المذهبية في سورية، كما أن الهوية الإسلامية- السنية- للسلطة الجديدة وعلاقتها بتركيا قد تعني، وفي ضوء استثمارات الهوية، تمثيل مصالحها في سورية.
الصعود اللافت لهيئة تحرير الشام ثم إلى سلطة تدير المرحلة الانتقالية تحولٌ جذريٌّ في المشهد السوري وفي الإقليم
الانتقال من العمل المسلح الى إدارة المرحلة الانتقالية في سورية، ومن تمثيل تنظيم ديني جهادي محلي مرّ بمراحل من التطور إلى تمثيل السوريين، على اختلاف طوائفهم، وفي مرحلة حسّاسة يضع هيئة تحرير الشام في اختبارٍ صعب، داخليا وخارجيا أيضاً، فإلى جانب غموض شكل النموذج السياسي الذي ستفرضه في هذه المرحلة، ونتاجه على المجتمع السوري، فإن افتقارها للتجربة السياسية يجعلها محكومة بالتحالفات المحلية في مرحلة ما بعد الأسد، ومدى استقرارها. وأيضا قدرتها على تجاوز تنافساتها البينية، فمع تعقيد خريطة تحالفات المعارضة السورية، وأيضا تعدّد ولاءاتها، فإن فتح حوار حقيقي مع فصائل المعارضة لتوحيد رؤية سياسية بشأن مستقبل سورية يمثل التحدّي الجوهري لاي سلطة في البلاد، إلى جانب تعدّد (وتعقيد) الملفات الداخلية التي عليها التعاطي معها من تثبيت مؤسّسات الدولة إلى مضامين المرحلة الانتقالية، وأيضا إدارة الأزمات المجتمعية والإنسانية والاقتصادية التي يواجهها السوريون، فضلاً عن التهيئة لتنفيذ العدالة الانتقالية لضمان ملاحقة المجرمين من النظام السوري، والقوى المتورّطة بالجرائم من الفصائل المسلحة الأخرى، ومنع تحوّل ذلك الى موجة انتقام وعنف طائفي، إضافة، وهو الأهم، أن كونها قوة من الفصائل المسلحة التي أطاحت نظام الأسد يجعلها محكومة بتوازنات العلاقة التركية- الأميركية وإدارتها المشهد السوري، وأيضا علاقتها مع الفصائل المحلية، وأهمها بالطبع الأكراد، خارجيا، فإن الاعتراف بهيئة تحرير الشام إدارةً انتقالية قد يكسر عزلتها، ويمنحها حلفاء إقليميين جددا، إلا أن تبنّي سياسة متوازنة يقيده أنها جزء من ديناميكية مشهد الصراع ضد النفوذ الإيراني في سورية وفي الإقليم، والذي شكل إطاحته في أهم معاقله، تحولا استراتيجيا وسياسيا لصالح تركيا وحلفائها في المحور الإسلامي السني.
في كل الحالات، عملية التغيير طويلة وشاقة، وفي سورية، كما في بلدان أخرى، يمثل تغيير السلطة فرصة للمجتمع لتجاوز صراعات الماضي، وبناء دولة حرّيات ومواطنة متساوية. ومع عدم وضوح المشهد السوري ومستقبله، فالأكيد هنا أن إسقاط نظام بشار الأسد، مثل لإسرائيل فرصة مناسبة لاستغلال حالة الفراغ السياسي في سورية لفرض أمر واقع في جبهة استراتيجية بالنسبة لها. فإلى جانب انتهاك اتفاقية فض الاشتباك بين الطرفين، بعد سقوط نظام الأسد، توغلت القوات الإسرائيلية في الأراضي السورية، بعد اختراق المنطقة المعزولة من السلاح في هضبة الجولان، وسيطرت على الجزء السوري من جبل الشيخ، ومن ثم محاولة استغلال الواقع السوري الحالي لفرض معادلة جديدة لصالحها، فضلاً عن تدمير مخازن الجيش السوري ومعسكراته وأصوله، والقضاء على أي مقدرةٍ عسكرية للدولة السورية مستقبلا لصدّ أي هجوم إسرائيلي، وبالتالي، ضمنت بسقوط أحد حلفاء إيران، وأهمهم انكفاء سورية، على الأقل في الوقت الحالي، منطقة تهديد، وطرفاً في معسكر المقاومة الإسلامية.