عن مأساة المدنيين في غزّة

عن مأساة المدنيين في غزّة

01 نوفمبر 2023
+ الخط -

طوال 17 عاماً من الحصار الإسرائيلي الشامل المفروض على قطاع غزّة، صمّ المجتمع الدولي آذانه إزاء معاناة السكّان، ولم يلتفت إلى أوضاعهم المعيشية المزرية، وظروفهم الاقتصادية الصعبة، وأوضاعهم الصحية المتدهورة. فمنذ فوز حركة حماس بالانتخابات التشريعية (2006)، وتولّيها إدارة القطاع (2007)، اعتبرت إسرائيل غزّةَ "كياناً معادياً"، وفرضت عليها عقوباتٍ شتّى، منها غلق جُلّ المعابر، وتقييد حركة الأشخاص والبضائع من غزّة وإليها، والتحكّم في كمّية الوقود، والمواد الغذائية، واللوازم الطبّية التي تدخلها. وعزلت دولة الاحتلال القطاع وفصلته عن الضفة الغربية والقدس الشرقية. وشدّدت القيود على دخول عمّال غزّيين إلى مناطق النفوذ الإسرائيلي. وأدّى ذلك إلى توسيع دوائر الفقر والبطالة والإحباط في القطاع. وفي الأثناء، شنّت إسرائيل على غزّة أربع عملياتٍ عسكرية دامية هي الرصاص المصبوب (2008/ 2009)، وعمود السحاب (2012)، والجرف الصامد (2014)، وحارس الأسوار (2021). وأدّت تلك الهجمات إلى مقتل آلاف المدنيين، وجُرح وتشرّد آخرون وهدمت منازلهم. كما أحدثت أضراراً كبيرة في البنية التحتية الفلسطينية. ومعلوم أنّ العنف يُنتج العنف، والكبت يولّد الانفجار. وفي هذا السياق، برّرت الفصائل الفلسطينية بقيادة "حماس" اندلاع عملية "طوفان الأقصى"، معتبرة أنها ردّ فعل على انتهاكات دولة الاحتلال بحقّ الفلسطينيين. وكان ردّ إسرائيل بإطلاق عملية "السيوف الحديدية" التي أتت على الحجر والبشر في غزّة، وكلّفت المدنيين غالياً. ولذلك تجلّيات وتبعات عدّة.

ورد في إحصائية صادرة عن وزارة الصحة في غزّة أنّ العدوان الإسرائيلي على سكّان القطاع خلّف، حتى كتابة هذه السطور 6546 قتيلاً، من بيْنهم 2360 طفلاً، و292 سيّدة. ويتبيّن الدارس من متابعة تقارير صادرة عن منظمّات حقوقية وإغاثية ووسائل إعلام موثوقة أنّ رائحة الموت تفوح في كلّ مكان في غزّة، وأنّ آلة الترويع الإسرائيلية لا تستثني أحداً، فالقصف الجوّي استهدف المدنيين كما المقاتلين على السواء. والهروب من مكان إلى آخر لا يقي الغزّيين أوار المعارك ولظى الطائرات الحربية لدولة الاحتلال، فالقتل يتعقّب المدنيين في البيوت كما في الشوارع، وفي الملاجئ كما في المشافي، وفي الأسواق كما في الكنائس والمساجد. ومن ثمّة، تغلّقت أبواب النجاة أمام سكّان غزّة، وتحوّلت حياتهم إلى تراجيديا دامية، وضنك لا ينتهي، ولم يعد في مقدورهم الإحساس بالطمأنينة، والحصول على حاجياتهم الأساسية، والتمتّع بالنوم ساعات متتالية. وذلك بسبب أزيز الرصاص، وزمجرة المدافع، وانفجار الصواريخ والقنابل التي قد تقضي على حياتهم في أيّ لحظة وفي أيّ مكان. ونتيجة ذلك استوطن الإحساس بعدم اليقين بالمستقبل، والشعور بالحيرة والذهول وقلّة ذات اليد المدنيين في غزّة. فترى أحدهم يقف على ركام بيته الذي هدّمته القوات الجوية الإسرائيلية، مفتشاً عن بقايا أهله وأشلاء أسرته، ويواجه الكاميرا بوجهٍ مسكونٍ بالغضب والحسرة والأسى، مسائلاً إسرائيل، والعرب والعالم: وين بِنروح؟ (أين سنذهب)، لقد دمّروا منازلنا ومتاجرنا وممتلكاتنا ومسحوا المنطقة بأكملها! وتصرُخ فلسطينية بعد فقد أبنائها إثر غارة جوية إسرائيلية: "لماذا تقتلون أطفالنا؟ بيكفّي يا عالَم... بيكفّي ظلم... إحنا ناس غلابة..،" فيما تقول أخرى "إنّنا ننام في بيت واحد معاً لنموت معاً حتّى إذا باغتتنا قذيفة أو صاروخ لا يبقى أحد يعاني الحسرة على فقد البقية". وأظهر مقطعٌ آخر صورة طفل فلسطيني تملّكه الذهول والذعر، بعد أن داهم القصف بيته وأهله وهم نيام.

أعلنت السلطات الإسرائيلية أنّ الحصار الجديد على غزّة سيكون تاماً "لا كهرباء، لا ماء، لا وقود". وجرى تعطيل حصول سكّان القطاع على المساعدات الإغاثية الدولية بشكل منتظم ومستدام

ووصف فيليب لازاريني، المفوض العام لـ "أونروا" الوضع في غزّة بأنّه "كارثي، وتقشعرّ له الأبدان"، قائلاً "القطاع يتحوّل إلى حفرة من الجحيم، وهو على شفا الانهيار". وقالت الأمينة العامة لمنظمّة العفو الدولية، أنياس كالامار، "لقد أظهرت القوات الإسرائيلية، في نيتها المعلنة استخدام كل الوسائل لتدمير "حماس"، ازدراءً صادماً لأرواح المدنيين. لقد دمّرت شارعاً تلو الآخر من المباني السكنية، ما أسفر عن مقتل المدنيين على نطاق واسع وتدمير البنية التحتية، بينما تؤدي القيود الجديدة التي فرضتها إلى النفاد السريع للمياه والأدوية والوقود والكهرباء في غزّة. وأكد شهود العيان والناجون، مراراً وتكراراً، أن الهجمات الإسرائيلية دمّرت عائلات فلسطينية، وتسبّبت في دمار كبير لم يترك لأقارب الناجين سوى الركام ليذكّرهم بأحبّائهم".

وبناء عليه، اعتمدت القوّات الإسرائيلية في حربها على غزّة، بحسب مراقبين، استراتيجية الأرض المحروقة، والتنكيل بالمدنيين من خلال التركيز على ثلاثة مسارات انتقامية. الأوّل، تعميم القصف وتكثيف وتيرته في المناطق الآهلة بالسكان. والثاني، تعطيل وصول الغزّيين إلى المواد الأساسية والمساعدات الإنسانية. والثالث، ضرب البنى التحتية، والخدمية، والصحية، مع تعميم القصف واستهداف المناطق السكنية.

ودلّت كثافة الغارات الجوية على غزّة، بحسب خبراء عسكريين، على عدم وجود أهداف عسكرية دقيقة لدى الجيش الإسرائيلي، وميله إلى القصف العشوائي للقطاع بغرض إحداث أكبر عدد ممكن من الضحايا في صفوف المدنيين والمقاتلين معاً. ويتعارض هذا النهج في القتال مع القانون الإنساني الدولي، المنصوص عليه في اتفاقيات جنيف لعام 1949، وفي البروتوكولين الإضافيين لعام 1977. فالمادة الثالثة من اتفاقية جنيف الثالثة "تحظُر الاعتداء على الحياة والسلامة البدنية، خصوصا القتل بجميع أشكاله، والتشويه والمعاملة القاسية والتعذيب، ضد الأشخاص الذي لا يشاركون مباشرة في الأعمال العدائية". وأكّد القانون الدولي حتمية تمييز أطراف النزاع المسلّح بين المقاتلين وغير المقاتلين، حتّى لا يتضرّر المدنيون. وورد في المادة 51 من البروتوكولين الإضافيين أن "المدنيين لا يجوز أن يكونوا هدفاً للهجوم، وأن أعمال العنف أو التهديد بها التي يكون غرضها نشر الرعب بين السكان المدنيين محظورة".

المراد ليس القضاء على "حماس" فحسب، بل تصفية القضية الفلسطينية، وقبْر حلّ الدولتين، وغلق باب التفاوض على السلام بين الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني

وعلى صعيد متّصل، أعلنت السلطات الإسرائيلية أنّ الحصار الجديد على غزّة سيكون تاماً "لا كهرباء، لا ماء، لا وقود". وجرى تعطيل حصول سكّان القطاع على المساعدات الإغاثية الدولية بشكل منتظم ومستدام. وعدّ حقوقيون وسياسيون الممارسات الإسرائيلية تتجاوز مطلب الدفاع عن النفس إلى تسليط عقاب جماعي على المدنيين الفلسطينيين، وهو ما يُعدّ جريمة حرب بحسب القانون الدولي. وأدّى القصف العشوائي الإسرائيلي إلى إلحاق أضرار فادحة بمدارس ومستشفيات، ومراكز إغاثية وطواقم طبّية، وهو ما فاقم معاناة المدنيين في غزّة. وفي ظلّ الوضع المأساوي المشهود في القطاع، تخشى منظمة العفو الدولية من أن "تتحوّل غزّة من أكبر سجن مفتوح في العالم إلى مقبرة جماعية هائلة."

ويبدو بحسب ملاحظين أنّ دولة الاحتلال تروم من شنّ حرب دامية شاملة شعواء على المدنيين في غزّة تحقيق عدّة أهداف، لعلّ أهمّها فكّ الارتباط بين حركة حماس وسكّان القطاع، وتأليبهم عليها، وترويع السكان ودفعهم إلى مغادرة غزّة، والتمهيد لاجتياحها بَرّاً. ويذهب دارسون إلى أبعد من ذلك، معتبرين أنّ الهجمة الإسرائيلية الشرسة على القطاع تتغيّا إخلاءه من الغزيين وتغيير بنيته الديمغرافية، وتحويله إلى مستوطناتٍ جديدة، وأنّ المراد ليس القضاء على "حماس" فحسب، بل تصفية القضية الفلسطينية، وقبْر حلّ الدولتين، وغلق باب التفاوض على السلام بين الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني. ومعلوم أنّ كتم أصوات الفلسطينيين ومصادرة حقوقهم بقوّة السلاح لن يضمنا الأمان لإسرائيل، ولن يقضيا على فكرة المقاومة بل سيزيدان في انتشارها وسيؤدّيان إلى تنويع أشكالها، وسيزيد التمادي في إيذاء المدنيين الفلسطينيين من تنامي الشعور بالكراهية تجاه إسرائيل والغرب في المنطقة.

من المَعيب أن يستمرّ جمود المجتمع الدولي وتردّده إزاء مأساة المدنيين في غزّة. ولا يكفي في هذا الشّأن إصدار بيانات أسفٍ وتنديدٍ وتضامن

بناء على ما تقدّم، يتبيّن أنّ الحرب على غزّة أنهكت المدنيين، وأربكت حياتهم، وعرّضتهم لمخاطر شتّى، وأثّرت سلباً على أوضاعهم النفسية والمادّية والصحية والمعيشية، وعلى حياتهم اليومية، وجعلتهم موزّعين بين خيار البقاء في القطاع ومواجهة خطر الموت في أيّ لحظة، وخيار الرّحيل وتكبّد متاعب وخسائر شتّى. وفي الحالتين يفقد الفلسطيني حقّه في حياة آمنة، كريمة ومستقرّة.

ختاماً، من المَعيب أن يستمرّ جمود المجتمع الدولي وتردّده إزاء مأساة المدنيين في غزّة. ولا يكفي في هذا الشّأن إصدار بيانات أسفٍ وتنديدٍ وتضامن، وإرسال مساعدات إغاثية، بل المطلوب وضع حدّ للانتهاكات المسلّطة على المدنيين، وإلزام الطرفين المتحاربين بوقف إطلاق النار، وإيجاد أفق سياسي للأزمة يُفضي إلى جلوس الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني إلى طاولة التفاوض من جديد من أجل تحقيق سلامٍ عادلٍ ومستدام. وأحرى بدول العالم الحرّ أن تبذل جهودها الدبلوماسية والأخلاقية لتوقف هذه الحرب الضروس، وتدعم الطموح المشروع للشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلّة، كاملة السيادة بناء على المواثيق الصادرة عن الأمم المتحدة على نحوٍ يضمن صِدقية ما تنادي به تلك الدول من قيم كونية، في مقدّمتها تعميم السّلام، والعدل والحرّية وضمان حقّ الشعوب في تقرير مصيرها.

511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.