عن تناقض "فيفا" ورفض إندونيسيا التطبيع مع إسرائيل
قرّر الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) سحب تنظيم بطولة كأس العالم للشباب تحت عشرين سنة من إندونيسيا، والتي كانت مقرّرة في أربع مقاطعات في الدولة الآسيوية العملاقة منتصف الشهر المقبل (مايو/ أيار)، وذلك إثر احتجاجات شعبية ضد مشاركة المنتخب الإسرائيلي بالبطولة ورفض حاكم بالي، وايان كوستر، استضافته في المقاطعة، رغم ترحيب الرئيس الإندونيسي، جوكو ويدودو، بمشاركته، ولكن من دون أي يعطي الأمر أي دلالة سياسية، أو يعني أي تغيير بموقف البلاد الحازم من دعم الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، كما قال الرئيس حرفياً.
يجب النظر إلى الحدث من زاويتين، الأولى، تتعلق بالرفض الشعبي الإندونيسي وممثليه المنتخبين استضافة المنتخب الإسرائيلي الذي يشارك في البطولة أول مرة، والثانية، تناقض "فيفا" في تعاطيه مع الاحتلال الإسرائيلي وممارساته بما في ذلك نظام الفصل العنصري ضد الفلسطينيين مع موقفه من مقاطعة روسيا وعزلها رياضياً بسب احتلالها أوكرانيا، كما موقفه المشرف والحاسم من مقاطعة نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا منتصف القرن الماضي وعزله ومقاطعته، ما أدّى، في النهاية، إلى تفكّكه وسقوطه، إضافة، بالطبع، إلى النضال الحازم العنيد والذكي للشعب الجنوب الإفريقي.
بداية، لا بد من الانتباه إلى أن إندونيسيا أكبر دولة مسلمة لا تقيم علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، ورغم الضغوط الأميركية في أثناء مد الاتفاقيات الإبراهيمية قبل ثلاث سنوات، وإقامة نوع من العلاقات السياحية والتجارية المتواضعة والخجولة، إلا أن الموقف الرسمي المدعوم شعبياً على نطاق واسع، وكما في أي دولة ديمقراطية، ظل كما هو لجهة رفض الاعتراف والتطبيع مع إسرائيل، قبل نيل الشعب الفلسطيني حقوقه العادلة والمشروعة في السيادة والاستقلال وتقرير المصير وفق القرارات والمواثيق الدولية.
في الدول والأنظمة الديمقراطية، ثمّة مساحة حرية واسعة أمام الجماهير للتعبير عن آرائها، ومع قرب موعد البطولة وإقامة مراسم القرعة التي كانت مقرّرة أواخر مارس/ آذار انتفض الشارع عبر مظاهرات وفعاليات ووقفات احتجاجية أمام البرلمان ومؤسّسات سياسية ورياضية أخرى، رفضاً لاستقبال المنتخب الإسرائيلي الذي يشارك في البطولة أول مرة. وللمفارقة، أهم مشاركة إسرائيلية آسيوية كانت في إندونيسيا تحديداً عبر بوابة بطولة آسيا لكرة القدم للمنتخبات 1964 قبل طرد الدولة العبرية من اتحاد كرة القدم واللجنة الأولمبية القارّية بجهود كويتية وعربية مدعومة إسلامياً، وتنضم إلى الاتحاد الأوروبي ومسابقاته.
لا بد من لوم السلطة الوطنية التي لا تخوض المعركة، كما ينبغي في سياقاتها المختلفة السياسية والرياضية والإعلامية عبر المطالبة الدؤوبة بفرض عقوبات وعزل إسرائيل رياضياً
كما رأينا في لافتات وشعارات الاحتجاجات الإندونيسية جاء رفض استضافة المنتخب الإسرائيلي تضامناً مع الشعب الفلسطيني الذي يخوض نضالاً عادلاً ضد الاستعمار وممارساته، وغير الشرعية، والإجرامية بما في ذلك اتباع نظام فصل عنصري موصوف كما تقول منظمات حقوقية أممية، وحتى إسرائيلية مرموقة. ولم تقتصر الاحتجاجات الإندونيسية الرافضة مشاركة المنتخب الإسرائيلي في مونديال الشباب على الشارع أو الرأي العام، بل انضم وايان كوستر حاكم ولاية بالي التي كانت من المفترض أن تستضيف الإسرائيليين الى المعارضين، علماً أن الولاية تضم أكثرية هندوسية، وهذا كان أحد أسباب اختيارها أصلاً لإقامة المنتخب، ولكن الرجل ديمقراطي ومرشّح محتمل للانتخابات الرئاسية المقبلة، أنصت إلى الرأي العام في المقاطعة نفسها والبلاد بشكل عام، بينما حاول الرئيس الإندونيسي جوكو ويدودو تلطيف الأجواء، موازناً بين استقبال المنتخب الإسرائيلي، ولكن في سياق رياضي بحت، عبر الالتزام بلوائح تنظيم البطولة، ومن دون إعطاء الأمر أي بوارد تطبيعية أو اعتباره مدخلاً لإقامة علاقات رسمية مع إسرائيل، مع التأكيد على الدعم الإندونيسي الراسخ رسمياً وشعبياً للقضية الفلسطينية وقضيته العادلة.
هنا تدخّل الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا)، وعقد اجتماع بين رئيسه جياني إنفانتينو ونظيره في الاتحاد الإندونيسي لكرة القدم الرئيس السابق لنادي أنتر ميلان الإيطالي إريك توهير مبعوثا عن رئيس البلاد. وبعد الاجتماع، قرّر "فيفا" سحب التنظيم من البلد المسلم بسبب الأجواء الشعبية الرافضة استضافة المنتخب الإسرائيلي، لكن مع لهجة مخفّفة نسبياً تجاه العقوبات التي يُفترض فرضها على البلاد، مع التأكيد على استمرار التعاون معها في ترويج كرة القدم ونشاطاتها، كما التعافي من كارثة 2022 التي وقعت في أحد الملاعب الكروية في البلاد، وأودت بحياة مئات من مشجّعي اللعبة الأكثر شعبية في العالم.
بدا التناقض فجّاً وصارخاً في موقف "فيفا"، كونه هو نفسه من قاطع روسيا وفرض عزلة رياضية كروية دولية على منتخباتها وأنديتها "طاولت حتى الألعاب الفردية" بسبب الغزو الروسي أوكرانيا وجرائم الحرب التي تحصل هناك، كما تقول المحكمة الجنائية الدولية أيضاً. ولا يحرّك "فيفا" ساكناً تجاه إسرائيل وممارساتها وانتهاكاتها الإجرامية ضد الشعب الفلسطيني بشكل عام، وقطاع الرياضة بشكل خاص، حيث قتل رياضيين واعتقالهم وتشريدهم ومنع تنقلهم أو تنظيم المسابقات بشكل احترافي ومنتظم وإقامة مؤسسات وأندية رياضية في المستوطنات المقامة على أراضي محتلة وفق القانون الدولي.
لا يحرّك "فيفا" ساكناً تجاه إسرائيل وممارساتها وانتهاكاتها الإجرامية ضد الشعب الفلسطيني عموماً، وقطاع الرياضة خصوصاً
فلسطينياً، تزامن قرار "فيفا" ضد إندونيسيا، ودعماً لإسرائيل مع الأحداث التي وقعت في ملعب الشهيد فيصل الحسيني في ضاحية الرام في القدس المحتلة في أثناء مباراة جيل المكبر ومركز شباب بلاطة في نهائي كأس الشهيد ياسر عرفات، حيث اقتحمت قوات الاحتلال الملعب وأطلقت الغازات المسيّلة للدموع داخله، ما أدّى إلى إصابات بين المشجّعين (بينهم أطفال) ولاعبي الفريقين وطواقمهما وتأخير بداية الشوط الثاني أكثر من ساعة تقريباً.
في السياق الفلسطيني أيضاً، لا بد من لوم السلطة الوطنية التي لا تخوض المعركة، كما ينبغي في سياقاتها المختلفة السياسية والرياضية والإعلامية عبر المطالبة الدؤوبة بفرض عقوبات وعزل إسرائيل رياضياً. واللوم نفسه يقع على الدول العربية، خصوصا المؤثرة منها لموقفها الخجول من الضغط لمقاطعة إسرائيل لانتهاكها الصريح والفظّ القانوني للوائح "فيفا" والميثاق الأولمبي الدولي.
أخيراً، وفي المشهد العام، ومع تأكيد حقيقة رفض الشارع العربي والإسلامي التطبيع مع إسرائيل والمطالبة بمقاطعتها ومحاسبتها على جرائمها بحقّ الشعب الفلسطيني، لا بد من الإشارة إلى دعوات إعلامية انتهازية صدرت في مصر لاستضافة مونديال الشباب، بعد سحبه من إندونيسيا. وضمنياً قبول الحضور الإسرائيلي لضمان مشاركة منتخب الشباب المصري رغم حاله المزرية، علماً أنه خرج من الأدوار القارية التمهيدية الأولى لتصفيات البطولة، وفشل، بالتالي، في التأهل إلى المرحلة النهائية في إندونيسيا، وذلك ضمن انهيار عام يطاول الرياضة والأوضاع في البلد العربي الكبير، مع استثناء "الأهلي" بقيادة محمود الخطيب أحد أساطير كرة القدم، وكرة اليد التي وضع أسسها الصلبة رئيس الاتحاد الدولي للعبة حسن مصطفى، والذي تعرّض، ولا يزال، رفقة الخطيب لحملات منهجية منظمّة ومستمرّة من أبواق النظام الإعلامية فقط بسبب الانتماء إلى الدولة والوطن، لا النظام الحاكم وسياساته الكارثية على كل المستويات.