عن جنين ونابلس ... وغزّة أيضاً
تصاعدت عمليات المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية خلال الأيام الماضية، تحديداً شمالها، أي في محافظتي جنين ونابلس. جاء تصاعد العمليات وضمن أسباب كثيرة طبعاً ردّاً على تصاعد وتيرة القتل والإجرام الإسرائيلي بحقّ المقاومين والمدنيين الفلسطينيين، مع اقتحامات عسكرية مدججة ومتلاحقة لمناطق سكنية ضيقة ومكتظة، ما أدّى إلى دمار هائل وسقوط عدة شهداء في كل مرّة، إضافة إلى العودة إلى استخدام الطائرات في الاقتحامات والاغتيالات لأول مرة منذ عقدين تقريباً.
بدا لافتاً كذلك، وإن ليس مفاجئاً، الاحتفاء الفلسطيني بما يجري في جنين تحديداً، بعد خفوت ظاهرة عرين الأسود في نابلس، والحديث عن غزّة أخرى هناك، رغم أن هذا ناتج أساساً من نقاشات وتسريبات إسرائيلية في سياق تسويق وتيرة القمع والإجرام أمام الداخل المتطرّف، والانزياح إلى اليمين والتبرير أمام المحيط الخارجي الإقليمي والدولي أيضاً، لحصد شرعية لسياسات وخطط وممارسات جيش الاحتلال بشكل عام.
منهجياً، يمكن الحديث عن ثلاثة أسباب ومعطيات أساسية تقف خلف المشهد الحالي في الضفة الغربية تحديداً شمالها المكتظ، أي جنين ومخيمها ونابلس وحارتها القديمة، وتتمثّل بضعف سلطة رام الله وعجزها عن حماية مواطنيها، ناهيك عن تحقيق أمالهم الوطنية بالاستقلال والسيادة وتقرير المصير، ثم الانقسام الفلسطيني وعدم التوافق على استراتيجية موحّدة للمقاومة وإدارة الصراع بشكل عام وفي الضفة الغربية بشكل خاص، وأخيراً سياسة إسرائيل خلال السنوات العشر الماضية للحفاظ على الواقع الراهن قدر الإمكان، أي الانقسام والاحتلال الرخيص ومنخفض الكلفة، أيا كانت المسمّيات، سواء كانت إدارة الصراع وتقليصه، والسلام الاقتصادي أو أي مسمّيات أخرى. إضافة إلى الجشع الصهيوني الاستعماري التقليدي لمحاولة تغييره أي الواقع لصالحها، وفرض حقائق جديدة على الأرض كلما سنحت الفرصة لذلك.
هناك سبب آخر لأخذ الشباب القيادة والمقاومة بأيديهم، يتمثل في الانقسام السياسي والجغرافي بين حركتي فتح وحماس
فشلت السلطة في تحقيق مشروعها المعلن المتمثل بقيادة الشعب الفلسطيني نحو الاستقلال وإقامة الدولة كاملة السيادة، وتوفير الحياة الكريمة والآمنة للناس في أبعادها المختلفة الاقتصادية والاجتماعية، ثم تواصل الفشل وتعمّق مع العجز عن حمايتهم من آلة البطش والإجرام الإسرائيلية، كما خطّط، ومشاريع التهويد والاستيطان التي لم تتوقف، بل تضاعفت ثلاث مرات على الأقل منذ اتفاق أوسلو وتأسيس السلطة التي وصلت إلى نهاية طريقها، وباتت ضعيفة وهرمة ومترهّلة ومنفصمة وغير ذات صلة بالتطوّرات والأحداث، ولا يقيم أحدٌ لها وزناً ولا قيمة، خصوصا بعد الهروب المنهجي من الانتخابات، وعدم الإنصات لنبض الشارع ومزاجه العام ورغبة ثلاثة أرباع الفلسطينيين على الأقل برحيل الرئيس الثمانيني، محمود عبّاس، بعد عقود في السلطة، إثر فشل مشروعه السياسي القائم على التفاوض ثم التفاوض ثم التفاوض، ووصوله إلى طريقٍ مسدود.
في السياق، لابد من الانتباه إلى أن دفاع الشباب عن أنفسهم والنضال بالوسائل المتاحة هو حقّ مشروع فردي وجماعي لهم، إنما هذه أساساً مهمة القيادة عبر وضع استراتيجية لإدارة الصراع والاستفادة من طاقات الشعب الهائلة لمواجهة الاحتلال وتحقيق الآمال الوطنية.
هناك سبب آخر لأخذ الشباب القيادة والمقاومة بأيديهم، يتمثل في الانقسام السياسي والجغرافي بين حركتي فتح وحماس والضفة الغربية وقطاع غزة والعجز عن التوافق على استراتيجية موحّدة لإدارة الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي، بما فيها المقاومة الشعبية بالطبع. ولذلك اتجه الشباب المتحمّس والمستعد للتضحية الى تنظيم أنفسهم، كما رأينا في نموذج عرين الأسود في نابلس الذي تتبجح إسرائيل بالقضاء عليه، بمساعدة من السلطة وأجهزتها الأمنية، رغم استحالة القضاء على الفكرة والنموذج في ظل استمرار الأسباب والمعطيات الموجبة.
دفاع الشباب عن أنفسهم والنضال بالوسائل المتاحة هو حقّ مشروع فردي وجماعي لهم
يتعلق السبب الأخير بإسرائيل وسياستها خلال العقد الماضي، وسعيها إلى الحفاظ على الواقع الراهن، وإدارة الصراع وتقليصه وتحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، خصوصا في الضفة الغربية، وإعادة وصل "السيروم"، المحلول الغذائي إلى غزّة، لإبقائها على قيد الحياة، كي لا تنفجر بوجه الاحتلال والإقليم برمته، والهرب منهجياً من الحل السياسي أو الانفجار الكبير وخروج الأوضاع عن السيطرة. وهذا يقف أساساً خلف رفض القيام بعمليات عسكرية موسّعة بشمال الضفة تحديداً، أي جنين ونابلس.
في السياق الإسرائيلي أيضاً، تمثّل الممارسات بالقدس والخطط الاستيطانية والتهويدية فيها التي تخفت وتعلو حسب الظروف والمناسبات والأعياد سبباً رئيسياً كذلك لتصاعد أعمال المقاومة بأشكالها وأساليبها المختلفة في المدينة المقدسة، والضفة الغربية بشكل عام، باعتبارها ساحة المقاومة الرئيسية في السنوات الأخيرة.
ويأتي الحديث عن سعي إسرائيل إلى منع إقامة غزّة أخرى في جنين، بناء على المعطيات السابقة. والغريب هذا الاحتفاء الفلسطيني بالفكرة والمصطلح "غزّة أخرى"، بغض النظر عن النقاشات والتسريبات الإسرائيلية عنه. تقتضي الفكرة بالضرورة إلقاء نظرة على غزّة وأحوالها، حيث تقول الأمم المتحدة إنها لم تعد مكانا صالحا للعيش، ويعتمد ثلاثة أرباع أهلها على المساعدات الغذائية الخارجية، ويحتاج نصف أطفالها على الأقل إلى دعم نفسي مع الاستفراد الإسرائيلي بها، والتنكيل بأهلها ونجاحه بمساعدة السلطة ومصر في عزلها عن العالم، وسلب الأمل بالمستقبل من أجيال بكاملها.
فشلت السلطة الفلسطينية في توفير الحياة الكريمة والآمنة للناس في أبعادها المختلفة الاقتصادية والاجتماعية
إلى الاحتلال وممارساته، تعود أحوال غزة المأساوية كذلك إلى الانقسام والعسكرة ونتائجها المدمّرة والمضرّة وترويج فكرة تحرير فلسطين من هناك لتبرير تلك الأحوال وتسويغها، وحث الناس على تحمّل واقعهم المؤلم، وتقبل إلقاء عبء أو مهمة التحرير الاستراتيجية والتاريخية والثقيلة عليهم، والتي تقصم ظهورهم والفلسطينيين بشكل عام.
تجب الإشارة كذلك إلى أن إسرائيل تستغلّ الفكرة دعائياً للتنكيل بجنين ونابلس، بحجّة منع إقامة غزة أخرى، بما في ذلك العودة إلى استخدام الطائرات والاغتيالات والتصفيات الموضعية، المناقضة للقانون الدولي بصفتها إعداما خارج المحكمة، وتضخيم ما يجري هناك (نابلس وجنين) والتهويل به لتبرير تلك الممارسات والجرائم، والتغطية على المسؤولية الإسرائيلية عنها، كما عن تحجيم السلطة وإضعافها وإيصالها إلى ما وصلت إليه، عدا العامل الذاتي بالطبع. وهنا، لابد من العودة إلى الاجتياح الدموي لنابلس في فبراير/ شباط الماضي، حيث قتلت إسرائيل وأصابت مائة مواطن، لاستهداف ثلاثة مقاومين من قادة "عرين الأسود"، وهو نفس ما فعلته هذا الأسبوع في جنين، حيث قتلت وأصابت مائة آخرين أيضاً، وكما دائما يجرى التبرير بمنع نشوء غزّة أخرى هناك.
إذن، مع احترام تضحيات غزّة وصمود أهلها، لا يمكن اتخاذها نموذجا، كون هذا وعلى العكس موجود في الضفة الغربية نفسها، وأثبت جدواه وقلة تكلفته، في مدن وبلدات القدس والخليل وبلعين وبيتا وبرقة، ويتمثل بنموذج المقاومة الشعبية الجماعية الذى لا يُغني، بحد ذاته، عن ضرورة إنهاء الانقسام وبلورة استراتيجية وطنية عامة على أساسه، مع الانتباه إلى أن حقّ المقاومة مكفول فردياً وجماعياً للشعب الفلسطيني، وإذا أراد أي فرد منه تجسيد هذا الحقّ على طريقته، فلا يمكن لومه، مع عدم إعفاء القيادة والفصائل من مهمة بلورة الاستراتيجية الوطنية ذات الجوانب المتعدّدة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، كي يتحرّك الجميع ويلتزم بها، على أن تأخذ بعين الاعتبار ليس فقط الواقع الفلسطيني، وإنما المتغيرات الإقليمية والدولية أيضاً.