حرب غزّة بين نموذجي الموصل وبيروت
ضمن الشراكة التامة بين الولايات المتحدة وإسرائيل في إدارة الحرب ضد غزّة، جرى تفضيل نموذج الموصل الضيّق على نموذج الفالوجا الموسّع في العدوان البرّي، بينما أعادت إسرائيل طرح نموذج بيروت على بساط البحث، متشجعة ربما من رؤية مشتركة للسعودية وفرنسا تدفع وتشجّع على هذا النموذج البيروتي.
مع احتضانها التام إسرائيل منذ صباح 7 أكتوبر، والجسر الجوي لنقل السلاح والعتاد الحربي بأنواعه المختلفة، بما في ذلك القذائف والعربات المدرّعة والتغطية السياسية والإعلامية العلنية للدولة العبرية، وتبنّي رواياتها تجاه ما جرى ويجري، أرسلت الولايات المتحدة كذلك مستشارين عسكريين كبارا لمشاركة خبراتها القتالية ونقاش وتحديد شكل العدوان البرّي ومضمونه، في سياقاته المختلفة، بعدما كان نقاشاً خجولاً جداً لمنعه.
كانت إسرائيل تفكّر باجتياح شامل لقطاع غزّة من الشمال إلى الجنوب في الوقت نفسه، كما فعلت في لبنان 1982، وكما فعلت الولايات المتحدة نفسها عندما اجتاحت مدينة الفالوجا إثر غزوها العراق في العام 2003. بينما، دعت إدارة الرئيس جو بايدن وكبار المسؤولين فيها (وزير الدفاع لويد أوستن والجنرال جيمس غلين)، في المقابل، إلى اتّباع نموذج مدينة الموصل العراقية 2016، الذي جرى تطبيقه أيضاً في مدينة الرقّة السورية 2017، بمعنى اجتياح محدود لمنطقة معينة، ثم الانتقال إلى منطقة أخرى. وهكذا، أي عدم الاقتحام الكامل للمدينة دفعة واحدة، ولكن مع سيطرة جوية كاملة وحصارها كلها بالطبع، تماماً كما فعلت إسرائيل في غزّة.
وكان الجنرال جيمس غلين قد أشرف على المعارك والحروب الأميركية في العراق وسورية، رفقة وزير الدفاع أوستن نفسه، حيث انخرط الاثنان مباشرة في بلورة الخطط والتكتيكات القتالية ضد تنظيم داعش في الموصل والرقّة تحديداً. وفي السياق، لا بد من لفت الانتباه إلى حضور أوستن وغلين، وكذلك مسؤولين وقادة أميركيين كبار آخرين، اجتماعات "كابينيت" مجلس الحرب الإسرائيلي المصغّر الذي يقود الدولة العبرية فعلياً منذ 7 أكتوبر.
جرائم حربٍ ارتُكبت في الموصل والرّقة، وجرى تدمير 80% من المدينتين تقريباً
لم يكن الابتعاد عن خيار نموذج الفالوجا أخلاقياً بالتأكيد، ولكن لتحقيق الأهداف المرجوّة بالمفرق مع صعوبة تحقيقها بالجملة إثر المقاومة الشرسة والعنيدة التي أبدتها المدينة العراقية الشهيرة، والخسائر الفادحة التي أوقعتها بجيش الاحتلال الأميركي، وتدميرها عن بكرة أبيها، بما في ذلك استخدام ذخائر اليورانيوم المنضّب المحرّم دولياً.
لا بد من التذكير كذلك بأن ثمّة جرائم حرب ارتُكبت في الموصل والرّقة، وجرى تدمير 80% من المدينتين تقريباً، حتى مع التجييش الإعلامي للقول إنه جرى اتّباع نموذج مقلّص من الحرب. وهنا أيضاً ضمنياً ثمّة مساواة بين حركة حماس وتنظيم داعش في سياقٍ خبيثٍ لشرعنة كل ما فعله ويفعله الاحتلال الإسرائيلي. ومن جهة أخرى، تجييش الدعم الدولي للحرب الأميركية الإسرائيلية ضد الحركة وغزّة.
بدأ تنفيذ مخطط الاقتراح الأميركي-الإسرائيلي مع فصل القطاع إلى قسمين شمالي وجنوبي عبر غارات جوية مكثفة على القطاع وتمركز الاحتلال منذ بداية التوغّل البرّي نهاية أكتوبر/ تشرين الأول الماضي في منطقة وادي غزة وسط القطاع تقريباً.
تم تطبيق نموذج الموصل أولاً على شمال قطاع غزّة، الذي يمثل ثلث مساحة القطاع الإجمالية، ولكن بنصف عدد السكان، وهو يضم العاصمة غزّة بأحيائها العريقة والشهيرة، الزيتون والرمال والشجاعية والشيخ رضوان والدرج، ومخيمي الشاطئ وجباليا، وبلدات بيت حانون وبيت لاهيا التي باتت أقرب إلى المدن. ثم جرى الانتقال بعد ذلك (أوائل ديسمبر/ كانون الأول)، وبعد انتهاء الهدنة الإنسانية إلى الجنوب ومدينة خانيونس تحديداً، مع فصلها نارياً عن مدينة رفح، وجعل الجنوب جنوبيين على أرض الواقع، وبالتالي تقسيم القطاع إلى خمس مناطق شمالية ووسطى، وخانيونس ورفح مع منطقة عازلة بالوسط قرب وادي غزّة وجحر الديك والمغراقة.
بحثت إسرائيل ودرست نموذج بيروت 1982، بمعنى التفكير في اقتراح إخراج المقاومين من "حماس" تحديداً
وكما يقال في الإعلام العبري، نقلاً عن جيش الاحتلال، تمثل مدينة غزّة، ومنطقة الشمال عموماً، مركز الثقل السلطوي والإداري لحركة حماس، بينما تمثل خانيونس المركز العسكري والأمني للحركة، مع ترويج مزاعم عن وجود القياديين، يحيى السنوار ومحمّد ضيف، وهما اللذان ينحدران من المدينة أصلاً.
إلى ذلك، تبقى معضلة رفح الحدودية التي يجري التفاهم عليها مع النظام المصري، بموازاة عمل جوي مكثف استمرّ أسبوعا تقريباً، ثم توغّل برّي، أخيرا، على الخط الحدودي، محور صلاح الدين فلادلفيا، وتفكير بإقامة جدار تحت الأرض وفوقها وتوسيع معبر رفح بحضور أميركي وإسرائيلي ودولي لتحلّل الاحتلال من أي مسؤوليات تجاه غزّة وأهلها، حتى مع تبجّحه بإدامة السيطرة الأمنية عليها في المدى المنظور.
مع نموذج الموصل السابق، والذي واجه مقاومة عنيدة وصلبة من المقاومة، أدّت إلى إطالته واستنزاف العدو ميدانياً وبشرياً ونفسياً واقتصادياً أيضاً، بينما يعتبره الاحتلال المرحلة الثانية من العدوان البرّي، تمهيداً للانتقال الى المرحلة الثالثة أو للدقّة اتباع نموذج الضفة الغربية في غزّة، وفق تبجّح عضو مجلس الحرب المصغر، الجنرال بيني غانتس، وقوله إن حكم الشجاعية وجباليا كحكم القصبة في نابلس وجنين وطولكرم.
في الأثناء، وفي سياق سعيها وبحثها، للدقّة، عن مخارج من المأزق، والخشية من الغوص بالوحل الغزاوي، بحثت إسرائيل ودرست نموذج بيروت 1982، بمعنى التفكير في اقتراح إخراج المقاومين من حركة حماس تحديداً، وأبرز قادتها ومقاتليها "مئات أو آلاف "إلى دولة أو عدّة دول عربية، حيث طلب رئيس الوزراء الإسرائيلي، نتنياهو، دراسة الاقتراح جدّياً، ولكنه تلقى تقييمات أولية سلبية غير مشجّعة. وذكرت هيئة البث الإسرائيلية، 24 ديسمبر/ كانون الأول، وكذلك صحيفة "إسرائيل اليوم"، الاثنين 25 ديسمبر، أن ثمّة دراسة جدّية وحثيثة ثانية أكثر عمقاً للنموذج البيروتي، بعد أولى تمهيدية وخجولة ببداية الحرب قبل ثلاثة شهور تقريباً.
مثّل اتفاق أوسلو 1993 نهاية الحقبة برمّتها، وتخبّطا في مرحلة انتقالية، أعقبت رحيل الشهيد المؤسّس ياسر عرفات
في السياق نفسه، كانت صحيفة لوموند الفرنسية، الثلاثاء 20 ديسمبر، قد أشارت إلى اقتراح سعودي فرنسي مماثل، ولكن في سياق وإطار سياسي أوسع مع إخراج مقاتلي "حماس" إلى دولة ثالثة، الجزائر تحديداً، حسب المقترح الذي يتضمّن كذلك نشر قوات عربية ودولية في غزّة، وعودة سلطة فلسطينية متجدّدة إلى غزّة، وشقّ أفق سياسي جدّي نحو حلّ الدولتين، وهي أمور ومعطيات يرفضها رئيس الوزراء الإسرائيلي، نتنياهو، نتيجة قناعات فكرية ومصالح وحسابات سياسية وحزبية.
هنا، لا بد من التذكير بأنه وبنموذج بيروت 1982 لم يكن الفلسطينيون يقاتلون في وطنهم، حتى مع العاطفة الجيّاشة تجاه لبنان وبيروت، وقبلوا الرحيل، لعدم تدمير المدينة الجميلة والساحرة. وبنظرة إلى الوراء، انتهت منظمة التحرير الثانية (الفدائيين) نظرياً، وجرى طي مرحلة مهمة في الثورة الفلسطينية المعاصرة. رغم ذلك، كانت فترة تنفّس صناعي، وفّرتها الانتفاضة الأولى 1987 للقيادة والمرحلة كلها، ثم مثّل اتفاق أوسلو 1993 نهاية الحقبة برمّتها، وتخبّطا في مرحلة انتقالية، أعقبت رحيل الشهيد المؤسّس ياسر عرفات مع جمود تنظيمي وسياسي، وتشبث الرئيس محمود عبّاس بالسلطة، ورفض الانتقال إلى مرحلة وحقبة ثالثة جديدة. وبالتأكيد، مع قيادة جديدة لإدارة الصراع مع الاحتلال. ومن هنا، يمكن فهم رفض التعاطي الجدّي مع نتائج الانتخابات التشريعية 2006، والانتقال القيادي بسلاسة داخل السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير بشكل عام. وفي العموم، وكما يقال، حتى في إسرائيل سيرفض قادة "حماس" ومقاتلوها نموذج بيروت، ولن يوافقوا على المغادرة، وسيقاتلون في وطنهم، حتى دحر العدوان وإفشاله أو الاستشهاد.
إضافة إلى ما سبق كله، يعبّر التفكير في تطبيق نموذج بيروت 1982 في غزّة 2023 عن غطرسة إسرائيل وانغلاقها وركونها لذهنية القوة، وأن ما لم يتحقق بها يمكن تحقيقه بمزيد منها، حيث لا تريد الدولة العبرية استخلاص العبر أو التفكّر في الدلالات والمعاني الجوهرية التاريخية والفكرية والسياسية لعملية طوفان الأقصى وحرب غزّة عموماً، وثمّة هروب منهجي إلى الأمام عسكرياً وسياسياً، وحتى حزبياً وشخصياً، حيث اعتاد نتنياهو، وبغطرسة وتبجّح، إعلان رفضه أن تكون غزة حماسستان أو فتحستان، وهي رغماً عنه كانت وستظل حماسستان وفتحستان وجهادستان وجبهتستان وأساساً فلسطينستان.