عمَّ تكتبُ والمجزرةُ جاريةٌ؟

22 أكتوبر 2024

(جميل ملاعب)

+ الخط -

استمع إلى المقال:

إن كنتَ لن تكتبَ عن المجزرة الجارية لقتل البشر وتدمير الحجر، فعمَّ ستكتب؟ إن كنت لا تحيد بعينيك عمّا يجري هناك طالما ما زال يجري تحت أعين العالم فرجةً لا تحرّك المشاعر، ولا تستفزّ المواقف، ولا تستدرّ الرفض، ولا حتّى أدنى أمارات الرحمة، فإلامَ تراك ستنظر؟
كلّ يوم، كلّ ساعة، كلّ ثانية، تجبر نفسَك على مواصلة حياة تعرف، برغم مزاعمها ومحاولاتها كلّها للمضي قدماً، أنّها مفخَّخةٌ وقابلةٌ لأن تنفجر في دماغك في أيّ لحظة. نعم، هنالك ما يُسمَّى "انفجاراً بالدماغ". اسألْ "غوغل" عن عوارضه، وسيردّ عليك: "صداع شديد، صرع، صعوبة في الكلام والنطق، صعوبة في البلع، صعوبة في الكتابة والقراءة". هذا كلّه تشعر به بشكل تصاعدي، ما أن تستفيق صباحاً وتنظر لشاشة هاتفك حيث تراكمت أخبار الليل، ورُسِمت في غفوتك خريطةٌ جديدة من ردم ودم. تشعر به، الصداع الشديد الذي يُبقي أجفانك مفتوحةً على مشاهد الهول، عقاباً أو لعنةً على ذنب تستجير الآلهةَ أن تسامحك عليه وأنتَ يقيناً لم ترتكبه. الرغبة بالتقيؤ على عجزك، على تخلّي الجميع عنك، على من جعلك عالقاً على هذا الجسر المعلّق مكسور الجانبَين، غير سالكٍ في الاتجاهَين ومن الطرفَين. الصعوبة في الكلام والنطق، في القراءة والكتابة، الأحرى استحالتها كما لو كانت تمرينا لكسيح على الجري عذاباً خالصاً مفروضاً عليك بانتظام، أنتَ الذي كانت الكلمات لك درعاً، بيتاً، معبداً أُفرغ من آلهته وشوّه بالرسوم والأكاذيب كلّها. ثمّ ماذا لو كنت راغباً بالخرس وأجبروك على القول، على الإعلان عن موقف، على إلقاء خطب فارغة من أيّ مضمون، على قرع طبول حربٍ لا ناقةَ لك فيها ولا جمل، حرب سبق أن خبرتها وتركت فيها عمرك وروحك.
أنت لا تشعر أنك بخير، بل إنّك تائه عن معنى أن تكون بخير، فحين يُذكَر الخير أمامك، تغلق عينيك محاولاً البحث عمّا يمثّله بَعدُ، عن أيّ أثر له. أنت في هذه البقعة من العالم، تغلق عينيك على شرّ تصلّي أن يكتفي القدرُ به، فلا يرميك في اليوم التالي بما هو أشنع وأخطر منه. موتك لم يعد الشاغل، فأنت ميّت ميّت، بل هي حياتك التي تسرّبت من بين أصابعك حفنةَ رملٍ باهتة صفراء، لا لون لها ولا ذاكرة، حفنة هباء تلاعبها الريح لتذرّيها في عينيك وتزيد عماك عمىً.
وفي الفسحة الصغيرة التي تبقّت لك، بعدما تسقط خاسراً وباكياً ويائساً، تتكوّم فوق فراشك "السعيد" قفّة همّ. لكنّك حين تبدأ تلج أرض النعاس بعد شهقات قصيرة، وتثاؤب، تلي نحيباً، تتمهّل عند العتبة قليلاً، فتمدّ كفَّك تلامس الشرشف الدافئ الجاف، ويتهيّأ لك أنّها تمسّ يد صبي أو فتاة بعمر الزهر، تملّس عليها بحنان، سائلاً الأصابعَ أن ترتخي والكفَّ أن تستكين، مطمئِنّاً ومهدهداً وراوياً حكايةً صغيرةً جميلةً، فيها أميرة وأمير، وقصور وورود، وطعام وألعاب وخضرة وضحك. أجل، نامي يا صغيرتي، ارقد يا صغيري، أنت الآن في حضن الحياة، تحنو عليك السماء، ويحرسك العراء. نم، فالحياة أمّ ولو غابت حتّى حين، والحياة بستان ولو احترق، فثق أنّه سوف يُعشب من جديد. لكنّك، وبعد أن تنزل في بحيرة النوم، سوف تسمع الدمعَ يركض على الخدَّين، وتشعر بالرجفة تهزّ البدن الضعيف. وفي العتمة الحالكة، سوف ترى العينَين المذعورتَين الزائغتَين اللتَين لا تفهمان لمَِ اختفى في لحظة كلُّ شيء، بعد أن مادت الأرض، وزعقتِ السماءُ، والتهمت الحرائقُ البيتَ بما (ومن) فيه، وغطّى الرمادُ الآسنُ الوجوهَ والأجسادَ، فمحى معالم طريق العودة إلى الحياة.

دلالات
نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"