"كتاب كل الكتب"
لستُ أدري لماذا أعادتني الأحداث الجارية في غزّة ولبنان إلى نتاج الإيطالي روبرتو كالاسو (1941 – 2021)، الناشر والناقد والكاتب الذي عُرف بتأليفه عمارة أدبية بعنوان "نتاج بلا اسم"، مؤلّفة من 11 كتاباً، صدر أوّلها في عام 1983 "خراب كاش" وآخرها "لوح الأقدار" عام 2020. تبلغ صفحات المجموعة نحو خمسة آلاف، وتتميّز بثبات فكرتها المركزية القائمة على تحليل العلاقة بين الأسطورة وظهور الوعي الحديث، محاولة تتبّع أصل الحداثة والعصر الحالي، مع منح الأدب الذي يعتبره كالاسو مثاله الأعلى، اسم "الأدب المطلق"، لمقدرته على تقديم ذاته معرفةً مكتفية بذاتها، فالأدب "مطلق" لأنه يريد أن يكون "حرّاً، متفلتاً" من أي التزام أخلاقي أو اجتماعي، ولأنه، في الآن نفسه، رديف البحث عن هذا المطلق. وبهذا، هو يرث بعض خصائص طقوس التضحية التي كانت تعتبر الطريقة الأكثر فعالية للتواصل مع الإلهي. فبرأي كالاسو، في عالمنا المعاصر الذي وضع الإلهي جانباً، أضحت القدرة على الاحتفال باللامرئي صلاحية الأدب وحده. هذا ولا ننسى أن هذه العمارة الهندسية السردية الكبيرة التي خلفها كالاسو ذات طابع مركّب، تتجاور فيه المقاطع الأدبية مع الاقتباسات وكتابة جديدة لبعض الأساطير مختلفة المصادر، ومقتطفات من النقد الأدبي والفلسفي.
لا يعدو كل ما سبق أن يكون تقديما لكاتب وأيضاً لكتاب ذكّرتني به أحوالنا السيئة، وأتمنّى الإشارة إليه في هذه العجالة، وبالتحديد لجهة انكشاف النزعة الدموية ورغبة التدمير والقتل لدى الإسرائيليين. إنه "كتاب كل الكتب" (2019) لكالاسو، الذي يركّز، أساساً، على التوراة باعتبارها الرحم الأول للغرب، حيث يجول الكاتب المثقف في قلب الأساطير التوراتية، عارضا تأملاته في مفاهيم الأضحية والانفصال والمنفى والاختيار (أو الاصطفاء)، مع التركيز على تناقضات العهد القديم، وهو بهذا يواصل مشروعه في سبْر المعتقدات الجماعية، وما تتضمنّه من انتقال رؤية الماضي (إلى الحاضر) بما يتعلق بالتقديس والاستبدال والعنف الذي تسمح به.
بالطبع، لا يتعلّق الأمر بالنسبة لكالاسو، ولا بأي حال، بتقديم تفسير قاطع أو بجعل شروحاته تاريخية أو سياسية. ومع ذلك، لا بد من الاعتراف باستحالة عدم ربط نصّه هذا بالسياق الدموي المستمر في فلسطين منذ النكبة، فقد تم تناسي امتلاك العبرانيين أورشليم وقتاً قصيراً وزائلاً، وتعرّضهم الدائم للنفي بسبب الأخطاء وتعدّد الآلهة وتقديم الأضاحي لآلهة أخرى، وعدم عبادة إله واحد تحوّل ببطء إلى يهوه. وعلى ما يبدو، ما يهم كالاسو هو الأزمنة البدائية والإيمان بإله يتطلّب التضحية، من دون إيلاء عناية للتفسيرات الحاخامية والنصوص الدينية، أو حتى لانتهاء الإيمان بضرورة التضحية. أما السؤال الجوهري الذي يطرح نفسه، بحسب كالاسو، فهو: لماذا من الضروري قتل كائنٍ حيٍّ لبلوغ اللامرئي؟ وهو سؤال ظلّ من دون إجابة، مع أن القصة بأكملها كانت محاولة غير مجدية للإجابة عنه، فحول طلب الرب من إبراهيم ذبح ابنه، يقول كالاسو: "للهروب من خطأ، من الضروري ارتكاب خطأ آخر". هذا هو أساس التضحية أو تقديم الأضاحي، قصّة دموية بشكل خاص، وسلسلة من جرائم القتل، في زمن المعتقدات والوحشية والبداوة.
ولا بأس من أن نتذكّر، يقول أحد مراجعي "كتاب كل الكتب" إن إله العبرانيين قتل جميع المصريين الأبكار قبل السماح للذي لم يكن بعد شعبه بترك عبوديّته. هذا ويكرّر كالاسو، في أكثر من موضع، أن الرابط بين الشعب المختار وإلهه وبين الملوك الذين يختارهم لنفسه، يحصل في جو من الشعور بالذنب والعقاب وإعادة إحياء الهرطقة: "الناموس يفترض القتل، كما يفترض القتل الناموس"...