تعب

08 أكتوبر 2024

(أحمد معلا)

+ الخط -

استمع إلى المقال:

أودُّ لو أملأ الصفحة بهذه الكلمة فقط؛ تعب. لا شيء يأتي على اللسان سواها، تتمدّد أحرفها الثلاثة في الحلق، تكبر لتتحوّل غلالةً تغلّف البدنَ كلّه، المشهدَ بأكمله. تعبٌ في عضلة القلب، تعبٌ في الأعصاب، تعبٌ في الحواسّ، إذ ينتشر الخراب ويتسلّل إلى الروح رائحةَ حرائق. تعبٌ في النظر إلى المباني المُهدّمة والانفجارات وكمّيات الردم والقتلى والشهداء والناجين والنازحين والضحايا. تعبٌ في احتساب ما يسمّونها أضراراً جانبيةً. جانبيةٌ حقّاً تلك التي تؤدّي إلى مصرع الناس الآمنين في أسرّتهم، داخل بيوتهم؟
تعبٌ من التحليلات والتعليقات والشروحات والمتابعات الصحافية، التي تكرّر الفجيعة إلى ما لا نهاية، بانتظار ضربة أخرى تنقلنا إلى فجيعة تالية. ما زالوا يتحدّثون عن مقاومة حتّى الرمق الأخير، الأحرى أن تقولوا حتّى اللبناني الأخير (!) لا اعتراف بالخطأ، لا اعتراف بالهزيمة، إذ ثمّة من يقول إنّ هذا يُحسّن شروط التفاوض. أيّ تفاوض مع آلة حربية لا مشاعر لها ولا ضمير، وأيّ مفاوضات بعد حرب غير متكافئة جُررنا إليها كالنعاج، وأُرغمنا عليها بالوعود، والحسابات الخاطئة، والتهويل والتطمين. يأتي وزير الخارجية الإيراني إلى لبنان ليشدّ العصب الشيعي، وليأمرنا بضرورة المتابعة. ويخطبُ بنا خامنئي بالعربية (!) يدعونا إلى الصمود ومواصلة القتال، فيما يُنقَل ليُخبَّأ في مكان آمن. كيف لم نتعب بعد من هذا الكلام الفارغ، من تلك الوعود الكاذبة المكشوفة كلّها، وكيف لم نرَ أنّ ما يحيكونه لنا هو لعب دور الأُضحية ليس إلّا، لمصلحة إيران وخيرها فقط.
تعبٌ من الحرب، من الحروب والاعتداءات والجغرافيا والتاريخ. تعبٌ من اللوم واللغات الخشبية وعروض القوّة غير المستندة إلى واقع ملموس. المصيبة واقعة، لسنا مسؤولين عنها.. صحيح، وبنيامين نتنياهو وحشٌ كاسرٌ يثبت وحشيته يوماً بعد يوم. أفلا يجدر بنا، ونحن أصلاً في الأرض، بلا دولة أو أدنى مقوّمات، أن نلتفت إلى الداخل لإنقاذ ما تبقّى من الأرواح والممتلكات؟ ألا يكفي مليون و300 ألف نازح لبناني، جزء كبير منهم مشرّد ينام في الطرقات وفي العراء، وليس لديه أدنى شروط العيش؟ أمن هؤلاء تطلبون أن يصمدوا لتحسين شروط التفاوض مع إسرائيل؟ ولم لا ترون في ما يجري فرصةً لإعادة إحياء دولةٍ وُضِعت على الرفّ سنواتٍ طوالاً؟ لم لا يكون هناك دولة نلقي على عاتقها أخيراً مهمّة الدفاع عن لبنان، والتوجّه إلى المحافل الدولية لطلب المساعدة من أجل وقف إطلاق النار وتأمين مساعدات أساسية وعاجلة للبنانيين؟
نعم، لنحتكم إلى العقل أخيراً. كلّنا خاسرون ولا حماية لنا إلّا بدولة قويّة ورئيس يُنتَخب ليحكي باسم لبنان. انهزامية؟... نعم، تلك هي الحقيقة التي ينبغي تجرّعها علّنا نستعيد بعضاً من قوّةٍ فقدناها منذ سنوات حين تفرّد جزء من اللبنانيين بقرار الحرب والسلم. نريد أن نحيا. لا، الحقّ يقال إننا نريد أن نموت بسلام، أن نطمئنّ إلى مستقبل أطفالنا، أن نشعر أخيراً أنّ عقودَ القهر والغبن والموت، التي صرفناها من أعمارنا، نفعت أخيراً في شيءٍ ما.
ليس هذا حديثاً في السياسة، ليس تحليلاً ولا قراءةً في الأوضاع. إنّه صرخةُ تعبٍ أخيرة، تعب بحجم الكون، شعور هائل بالعجز ورغبة في الخلاص، صوت صارخ في الصحراء: ارحمونا من موت محتوم، من أوبئة سوف تتفشّى عمّا قريب، من حفل كراهية ستمليه الفاقة والعَوز والأزمة الاقتصادية الخانقة. طائفة بأمّها وأبيها أُخرِجت من بيوتها ومناطقها إلى الطرقات بين ليلة وضحاها، كنتم قد وعدتموها ووعدتمونا بالنصر المُبين، كنتم قد طمأنتموها على مستقبلها وأنّها ستكون في أمان مهما ساءت الظروف. هل هذا هو ما رسمتموه لها؟ موت وتشرّد؟... رجاءً، أعيدوها إلينا، نحن أهلها، وإلى بلادٍ لن تقوم إلا بتسليم السلاح إلى الجيش، وحده المكلّف بحماية لبنان.

نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"