حلقة آخر الشعراء
"نحن في الداخل".. هذا ليس فيلماً بقدر ما هو قطعة حياة تمّ اقتطاعها من معيش رجلٍ في مدينة طرابلس، يدعى مصطفى قاسم، تجاوز الثمانين. أرمل ويعيش مع نانا، المساعدة المنزلية السريلانكية التي نسيت أنها في العائلة منذ 26 عاماً، أي عندما كان عمر فرح الابنة لا يزيد عن ثماني سنوات. وفرح هذه التي غابت عن المنزل 15 عاماً جالت خلالها على أكثر من بلد أوروبي، حيث درست وعملت، قرّرت أن تعود إلى لبنان لكي تعيش مع والدها فترافق تقدمّه في السنّ وترعاه. حتى هنا، لا شيءَ غريباً أو غير اعتياديٍّ، سوى أن الوالد المهندس شاعرٌ حتى العظم، ومحاطٌ بحلقة من الأصدقاء الشعراء يجاورونه في السنّ، ويشاركونه لوثة كتابة شعر التفعيلة، يلتقون كلّ أسبوع في منتدى الشعر، حيث كتب على جدار الغرفة من الخارج "نحن في الداخل". هم يتلاقون أسبوعياً ليُسمِع بعضهم بعضاً ما كتبوا، أو يتناقشوا في صحيح القول وبديعه، وفي وقوع المفردة المنتقاة في مكانها الأفضل أو الصحيح. هكذا نرى "أبو جميل"، يهرع إلى صديقه مصطفى، حاملاً أوراقه طالباً النجدة، ثمّة كلمة عاصية لا يجد ما يوافق موسيقاها هي العندليب، وها هو يسأل صديقه الأقرب إلى قلبه عن حلول. ثمّ هناك الطبيب، الذي يعوده مصطفى لوجعٍ في قدميه، فيُلقي عليه في ختام المعاينة قصيدة من تأليفه، أو يدعو مرضاه للاجتماع في العيادة والاحتفاء بشفاء مريضه مصطفى بالزمامير والتصفيق، تشجيعاً له وتمسّكاً بأمل شفائهم هم أيضاً.
عالمٌ صغير، وكأنه نابت على حدة، على هامش حياة قُضم منها كثير، وعلى حافّة وطن يتهاوى، حُبّ الشعر فيه ليس هوايةً، إنه التزام وأسئلة عن اللغة والوجود والفقد والحبّ والعمر الذي يمضي. هو أيضاً خشبة خلاص يتمسّك بها أشخاص فاتتهم السفينة، وها هم يتمسّكون بآخر ما تبقّى لديهم لكي يعوموا، بتركهم أثراً في هذه الحياة، قصائدَ ينظمونها بحسب قوانين تفعيلة طواها النسيان وأصبحت منذ الستينيّات في خبر كان.
والشعراء هؤلاء، لا تصوّرهم فرح قاسم (33 سنة) بصفتهم كاريكاتيرات أو أقانيم لا تمسّ، بل بصدقٍ وحبّ، وذلك لاستمرار غليان الحياة فيهم، ولجمالية أفولهم، ولتلك النفحة من الشجن المحيطة بحيرتهم بلحظات صمتهم. هكذا نرى فرح (المخرجة وابنة مصطفى) تنضمّ إلى المنتدى، بعد أن ثابرت على حضور حلقاتهم، برفقة والدها الذي يوقظها صباحاً من نومها ليقرأ عليها ما دوّنه ليلاً، فتقرّر أن تكتب شعراً، وتتوجّه إلى صديق والدها الذي سيساعدها في النظم، فتجده معذبّاً بين الدين والعلم، وقراءته عن مجموعة درب التبّانة التي تحتوي مئات الشموس غير شمسنا، وعن سعة الأكوان التي لا تحدّ. وفرح، بشعرها المنفوش وملامحها الطفولية، امرأة مستقلّة، إنّما شديدة التعلّق بوالدها، هي التي تشعر بأن الحياة تسرقه منها تدريجياً، تجلس بجانبه على السرير، وتسأله بحرقة: "بابا أنت تعرف لماذا أصوّر أنا هذا الفيلم". فيجيبها "نعم، لكي تحكي عن العلاقة بين أب وابنته"، مضيفاً إنه لن يزيد، كي لا يُجرح. فتتابع فرح: "فكرة الفراق هي ما يحرق قلبي". فيجيبها "هذه هي الحياة". فتسأل: "كيف نخفّف وطأة الفراق؟"، فيقول: "بالذكريات. وإذا نسينا فلا بأس، لأن لا شيءَ ثابتاً في هذه الحياة". هكذا نرافق تدهور صحّة الأب، مع تدهور حالة البلاد، بعد أن قامت ثورة 17 أكتوبر (تشرين) في الطرقات، ونزل الناس إلى الشارع في طرابلس التي أُطلق عليها "عروس الثورة"، وصولاً إلى وفاته.
والفيلم، من خلال طريقة تصويره الخارج عبر النافذة، وباتباع أسلوب واقعي يوثّق الحياة اليومية، ويعطي الوقتَ للوقت (مدّته ثلاث ساعات)، من دون أن يتحايل على العادي والأليف أو يسعى إلى تجميله، يصنع شاعريته الواقعية الخاصّة، التي تلامس شغاف القلب، وتجعلنا نردّد في النهاية مع مصطفى: "هذه هي الحياة، 60% ماضٍ، و30% قادمٌ، و10% حاضرٌ". هذا من دون أن ننسى طير الحمام، المعشّش في حافّة النافذة، يحمي بيضه حتى يفقس، وتكبر الطيور الوليدة، ثم يعود ليفقس من جديد. إنها دورة الحياة، بين ولادة وموت، ولا مناص...
فيلم مفاجئ، خاصّ وجميل (جائزة الجونة الذهبية للفيلم الوثائقي، وجائزة نيتباك لأفضل فيلم آسيوي طويل) مضحكٌ ومبكِ في آن، مُقهر، وإن صالحنا مع جريان الحياة، وما هذه المقالة الناقصة سوى تحيّة من القلب لمخرجته فرح قاسم، ومنتجته سينتيا شقير.