الشفافية القاتلة
في استضافتي له في برنامج مطالعات (تلفزيون العربي 2)، حول كتابه الصادر أخيراً "ما رأت زينة وما لم تر" (دار الساقي، بيروت، 2024)، قال الأديب اللبناني رشيد الضعيف، في معرض تعليقه على موضوع روايته (انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس/ آب 2020): "أمطرت رذاذاً من زجاج. الزجاج هو رمز الشفافية، فالمصارف مثلاً كلّها زجاج لأنّ كل ما فيها واضح وشفّاف ولا يوجد فساد. وإذا بالزجاج قد قتل الجميع".
بقيتُ أتفكّر في مفردة الشفافية، كلمة طرأت علينا ولم تكن تُستخدَم كثيراً في السابق، لكن فجأة صار الجميع يلهجون ويتغنّون ويطالبون بها. صارت الشفافية عنوان المرحلة. شفافية في الأداء الحكومي، وشفافية في وضع الموازنات، وشفافية في البناء حيث يفترض للظاهر والمخفي، وللخارج والداخل، وللسكن والطبيعة، أن يندمجا، شفافية في مواد التجميل، إذ ينبغي لها أن تخبّئ العيوب وأن تبقى غير مرئية في آن. ومع ذلك، كلّما ازداد استخدام هذه المُفردة، كثرت الصفقات التي تجرى من تحت الطاولة، وازداد الفساد والاستيلاء على ثروات الناس، وكثرت الدعايات الكاذبة، وذرّ الرماد في العيون.
حتى الشفافية الطبيعية المتجسّدة في الماء والهواء، قضوا عليها. وغنيٌّ عن القول إنّ العالم بأجمعه بات يشكو من تلوّث هذَين العنصرَين الحيويَّين بفعل الحداثة والتحديث، وتكاثر البشر، وجشع الرأسماليين، وسياسات الحكومات التي لا تقيم اعتباراً لحياةٍ أو لأرضٍ. أما في الأدب، فقد تكون السيرة الذاتية الأقرب إلى معنى الشفافية، فيطرح الكاتب على الورق حياته، أي كلّ ما لا نعرفه عنه، فنرى دواخله، وكأنّ جلدته تحوّلت وعاءً شفّافاً.
"أود أن أكون قادراً بطريقة ما على جعل روحي شفّافة لعينَي القارئ".. هذا ما كتبه جان جاك روسّو في الكتاب الرابع من "الاعترافات". والحال أنّه كان يعيش في عصر الأنوار، حين راحت الرغبة في الشفافية تتجلّى بصورة غير مسبوقة، سواء في إظهار الضمير الفردي للكاتب والتعبير عن مكنوناته بأكبر قدر ممكن من الصدق، أو في الإيمان بضرورة كشف السلطة عن سياساتها وممارساتها أمام مواطنيها. كتاب "الاعترافات" هو "الأوتوبيوغرافيا الكبيرة الحديثة الأولى"، التي كان لها كبير التأثير على أدب القرن التاسع عشر. فقد ساعدت هذه السيرة الذاتية روسّو في الردّ على بعض الاتهامات التي طاولته، ففعل بصدق وشفافية خالصة وبنبرة حديثة للغاية. وقد نشر "الاعترافات" في جزأين، عامي 1782 و1789، بعد أربع سنوات من وفاة الكاتب، نظراً إلى الأهمّية التي يوليها للتطوّر النفسي.
معروف أن روسّو أخذ عنوان كتابه عن القدّيس أوغسطين (354 - 430)، الذي كتب عمله حوالي عام 400، ويروي فيه قصة تحوّله واعتناقه المسيحية. عام 1771، أنهى روسّو الكتابة وبدأ بتقديم قراءات عامة سرعان ما حُظِرت، فصمت الكاتب وتقاعد من دون أن يمنعه ذلك من كتابة نصوصٍ تدافع عن ذكراه أمام الأجيال القادمة، فمنذ العام 1761، كان روسّو مهووساً بفكرة مؤامرة تُحاك ضدّه، بعد أن نجحت بعض أعماله سابقاً، ثمّ تبدّلت الأوضاع، ما جعله ضحيةَ "بارانويا" تهيّئ له أنّ الجميع مجتمعون عليه. وبالفعل، كانت كتاباته موضع نزاع متزايد؛ حُظِر بعضها وهدّد بالاعتقال، ما اضطرّه إلى اللجوء إلى سويسرا، حيث قرّر أن يكتب قصّةَ حياته.
يبقى هجوم فولتير الشرس عليه، في كتيّب غير موقّع بعنوان "شعور المواطنين"، وبّخه فيه على تخلّيه عن أطفاله الخمسة، وتركهم لعناية الخدمات الاجتماعية. لقد أعرب جان جاك روسّو لاحقاً عن أسفه الكبير، حتّى لو حاول بشتى السبل مساعدة والدة أطفاله، إلّا أنّه استمر يشعر بأعمق الندم، ويعتقد أنّه مريض جداً وسيموت قريباً.