طارق البشري ومفهوم الجماعة الوطنية
رحل العلامة المفكّر والمؤرّخ، المستشار طارق البشري، قبل أيام، بعد أن قدّم للمكتبة العربية إنتاجاً معرفياً وفكرياً مميزاً، والأهم أنه قدّم للأجيال الشابة نموذجاً محترماً يمثل قدوة لهم، على المستويات الفكرية والعلمية والسياسية، وقبل ذلك والأهمّ منه الأخلاقية والإنسانية، وهي معادلة نادرة جداً، للأسف، في العالم العربي اليوم، أي الجمع بين الإنتاج المعرفي المعتبر والاستقامة الأخلاقية والمواقف السياسية الملتزمة والمتسقة وغير المتناقضة.
نشر مفكرون وإعلاميون مقالات ومنشورات كثيرة، غداة رحيله، عن شخصيته وقيمته السياسية والمعرفية. لذلك، يختص هذا المقال بفكر البشري في مجال الإصلاح والنهضة، وهو الأمر الذي شغل اهتمامه وتفكيره. وإذا كان هنالك هدف أو مفهوم بنيوي يمكن، من خلاله، تفكيك الفكر السياسي للبشري وإعادة تركيبه، فهو مفهوم الجماعة الوطنية الجامعة، مع حفر أكثر في الحالة المصرية التي لا تتموضع فقط في الجغرافيا المصرية، بل لها تأثيراتها الكبيرة السياسية والفكرية والعلمية على العالمين، العربي والإسلامي.
ترك الراحل عشرات المؤلفات المهمة، فكتب في الفكر السياسي الإسلامي، وفي الجماعة الوطنية، والمسألة القبطية، والتاريخ المصري، والتيارات الفكرية المختلفة، والعلاقة بين الإسلاميين والعلمانيين، والجدل القانوني بين الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية، وغيرها من موضوعات متعدّدة، يجمع فيما بينها أنّه كان يبحث عن شيفرة لمواجهة حالة الاستقطاب والتناقض بين الفكر الإسلامي والتيارات الأخرى، سواء تحدّثنا على الصعيد الفكري أو الديني أو المؤسسي، فجميع هذه الكتابات تصبّ فيما أجمله البشري نفسه بمقولة "تيار أساسي للأمة"، يمثّل الألوان والتيارات والأفكار المختلفة والمتنوعة.
ينطلق مشروع طارق البشري من أنّ "الإسلامية الوطنية" بمثابة مفتاح الحل لمواجهة أزمة تعدّد المرجعيات
صحيحٌ أنّ البشري ينتمي إلى التيار التوافقي والمعتدل والوسطي في الفكر الإسلامي، وهو من النخبة المصرية المعروفة التي كتب عنها ريموند وليم بيكر في كتابه "إسلام بلا خوف"، مع أحمد كمال أبو المجد وفهمي هويدي ومحمد الغزالي، لكنه كان ذا كعب عالٍ في الكتابة العميقة الإبداعية في قضايا الشريعة والتاريخ والفكر، وله أطروحات مميزة مرتبطة ببناء الجماعة الوطنية، وإزالة الإشكالات والتناقضات التي تقف في طريقها، كما أُشير أعلاه.
ينطلق مشروع طارق البشري من أنّ "الإسلامية الوطنية" بمثابة مفتاح الحل لمواجهة أزمة تعدّد المرجعيات والولاءات والصراع الداخلي بين الشرائح الاجتماعية والسياسية المختلفة. وقد تجسّد هذا الاتجاه في صور وصيغ متعدّدة في مصر، خلال القرن الأخير، أبرزها في مدرسة مصطفى كامل ومحمد فريد، ثم في حزب الوفد، وكذلك في جماعة الإخوان المسلمين، في مقابل نزعاتٍ متطرّفة في الوطنية والإقليمية، سواء من جماعات دينية مسلمة أو مسيحية، تتحدث عن الأقباط، وكأنهم خارج الجماعة الوطنية المصرية.
لماذا الإسلامية الوطنية؟ لأنّها تجمع بين المرجعيتين الرئيستين اللتين يمكن أن توحّدا المصريين، وربما الشعوب العربية والمسلمة، المرجعية الدينية والحضارية والمرجعية الوطنية، اللتين تنبثق عنهما التيارات السياسية المتعدّدة، التيار الإسلامي والوطني العلماني والمسيحي الوطني.
مشكلة المحاولات العديدة للإصلاح في المجتمعات العربية والمسلمة في أنّها قامت على استيراد مؤسسات وثقافات من دون إدراك وظيفتها ودورها
ولعلّ إحدى أهم المعضلات التي اشتغل على كشفها البشري ومواجهتها هي "الازدواجية" التي سادت في العالمين، العربي والإسلامي، بين مؤسسات وموروثات قديمة بلا محاولات تطوير وتجديد وتأهيل، وجديد وافد من دون محاولات تكييفٍ وإعادة هيكلة كي يعكس ثقافة المجتمعات والشعوب، فأصبحت الازدواجية على صعيد التشريعات والمؤسسات والأفكار والثقافات الاجتماعية والانقسامات السياسية حجر الأساس في عطب مشروعات النهضة والإصلاح.
يقول البشري موضحاً تداعيات تلك الازدواجية: "نحن في مجتمعاتنا العربية والإسلامية نعيش مجتمعين متغايرين، ونحيا حياة منفصلة بين أنماط متغايرة في الفكر والسلوك والنشاط الاجتماعي والعلاقات الاجتماعية والأبنية التنظيمية والمؤسسات. وهذا يقيم شرخاً رأسياً في المجتمع، يفصم أبنيته وقواه، ويضع كل أولئك في تضاد وتعارض بعضهم مع بعض، مثل موضوع الولاء والانتماء للجماعة.." (ماهية المعاصرة، دار الشروق، القاهرة، 2005).
مشكلة المحاولات العديدة للإصلاح في المجتمعات العربية والمسلمة في أنّها قامت على استيراد مؤسسات وثقافات من دون إدراك وظيفتها ودورها، وأدّت إلى ازدواجية مع القديم أو تدميره، ما أحدث صدعاً في بنية الدولة أو المجتمع، وهي المحاولات التي يطلق عليها البشري "الإصلاح تحت خط النار". والنتيجة أنّ النظم الجديدة الوافدة من الغرب أصبحت بمثابة هياكل وأشكال بلا مضامين إنسانية، ونماذج تنظيميةٍ لا تتصل ولا ترتبط شرعيتها بإطار إيماني تتبناه الجماهير وتدافع عنه.
لعل أخطر آفات استنساخ الثقافات والمؤسسات الغربية حالة الازدواجية في المجتمعات العربية والمسلمة
ليس كل ما ساهم في تطور أوروبا وتقدّمها يصلح للعالم الإسلامي، بل ربما تكون آثاره عكسية، كما يرى البشري، فما أدّى بالغرب إلى السيادة هو ذاته "ما أدّى بنا إلى التبعية"، وما أدّى بالغرب إلى السير في طريق التجميع هو ذاته ما أدّى بنا إلى "السير في طريق التجزئة والتفتيت". ولعل أخطر آفات استنساخ الثقافات والمؤسسات الغربية حالة الازدواجية في المجتمعات العربية والمسلمة.
الشرخ، أو الانفصام العام داخل المجتمعات العربية والمسلمة، لا يظهر فقط في المجال الثقافي بين ثقافتين، حديثة وقديمة، بل حتى في مجال التشريعات بين قوانين أحوال شخصية تستمد من الدين في دول عربية عديدة وتشريعات وقوانين تستمد من القوانين والثقافة الغربية، وبين مؤسسات تقليدية، قائمة كما هي بتراثها وتقاليدها، لم تتطوّر، ومؤسسات اجتماعية سياسية حديثة، جاءت بقيمها وعملها، وبين قوى سياسية إسلامية تنطلق من المرجعية الإسلامية وقوى علمانية تنطلق من المرجعية الفكرية الغربية، وبين مؤسسات تعليمية تقليدية ومؤسسات حديثة تدرس اللغات الحديثة.
لم تكن رؤية البشري أيديولوجية مرتبطة بحزب أو جماعة، بل معرفية مرتبطة بالأمة والمجتمعات
المشكلة لا تكمن، وفقاً للبشري، في الإفادة من ثقافة العصر ومنجزاته، بل في الأسلوب الذي أحدث هذه الازدواجية، وأدى إلى الارتباك الحاصل من تشتت وتفكك وتضارب، فالإصلاح يجب أن ينطلق من القديم نفسه، في تطويره وتجديده وتأهيله للتعامل مع ثقافة العصر وتحدّياته. باستراتيجية "المزج الثقافي" يمكن مواجهة مشكلة الازدواجية، وذلك يتحقق بـ"إدراك ما في الموروث من قابليةٍ لاستيعاب ما يثبت من الوافد نفعه للجماعة". وهو ما يكفل القدرة على تحديد الثوابت والمتغيرات في عملية الإصلاح، فالموروث يمثل "الإطار المرجعي" والأصول والثوابت، ويحمل "الذات الحضارية" الممتدة عبر التغييرات والتعديلات، وهو ما يؤدّي إلى "التجدّد الحضاري"، بمعنى قدرة حضارة ما على استيعاب الجديد والاستعاضة بالمناسب عن غير المناسب.
لم تكن رؤية البشري أيديولوجية مرتبطة بحزب أو جماعة، بل معرفية مرتبطة بالأمة والمجتمعات. لذلك كان ينطلق من دراسة معمّقة للتاريخ والواقع، ويحاول أن يحدّد المشكلات بدقة، ويقدّم تصورات للحلول. ولعلّ ما قدّمه على صعيد مفاهيم الهويات الوطنية الجامعة والجماعات الوطنية وتفكيك الازدواجية وتجديد القديم وتأصيل الجديد وغيرها من أفكار لا تزال مهمة، بل تزداد أهميتها في العالم العربي اليوم، وهو يواجه حالات التشظّي والاستقطاب والانقسام على أسس دينية وعرقية وفكرية وسياسية!