سر الكتابة... المتلاشي

17 نوفمبر 2022

(فريد بلكاهية)

+ الخط -

لا أملّ من الكتابة عن الكتابة. لا أملّ من اتخاذ الكتابة موضوعاً لكتاباتٍ كثيرة ما بين القصيدة والمقال، ذلك أنها وحدها يمكن أن تكون بطلة الحكاية في كل حكايةٍ عن التعبير عن الذات والتداوي الذاتي والمتعة والتسلية أيضاً. وهذا كما يبدو له أحد أسرار هذه الممارسة الإنسانية الجميلة.

قبل سنوات، كنت أتحرّج من نشر هذا النوع من المقالات التي تتّخذ من الكتابة نفسها مادّة للكتابة، إلى أن اكتشفت أنها شغفي الخاص، والذي عليّ الاحتفاء بفكرته بين الكتّاب والقرّاء ما استطعت إلى ذلك سبيلاً. أن نكتب يعني أن نحاول استلهام الحياة بأدقّ ملامحها عبر الكلمات وحدها، ولعلّ هذا هو أصعب ما في فعل الكتابة. أن تتجرّد من كل ممارسةٍ، وتتنازل عن كل وسيلةٍ عدا وسيلة الكتابة وحدها، وتكون الكلمات مادة الأولى والأخيرة، لكنها كانت دائماً قادرة على التعبير عن الفكرة، وإنْ مرحلياً على الأقل.

اطّلعت، في سياق شغفي المتنامي هذا، على كتبٍ كثيرةٍ كتبها كتّابٌ رأوا فيها نوعا من الاستراحة بين القصائد والقصص والروايات ربما، ولهذا نجد بين تضاعيف كتبهم نكهاتٍ مختلفةً للقصائد والقصص والروايات التي يكتبونها كلٌّ على حدة.

لكن هل يجرؤ الكاتب المبدع فعلاً على البوح بكل أسرار الكتابة طوعاً؟ هل يجد في الأمر سهولة كما يبدو في تلك الكتب الكثيرة، والتي أصبحت دارجةً جداً بين الكتاب في العقود الأخيرة؟ هل يمكن لروائيٍّ أن يكشف حيله أمام القراء؟

بعد قراءتي مجموعةً من تلك الكتب العربية والمترجمة، اكتشفتُ أن الكاتب يضنّ على قرّائه بما يمكن أن نسمّيه سرّه الخاص في الكتابة، فكلّهم يحومون حول الحمى، لكنهم لا يكادون يفتحون الباب. يحاول المبدع أن يبقي صندوق أسراره مغلقاً حتى أمام نفسه، وربما هو فعلاً قد أضاع مفاتيح ذلك الصندوق، أو أنه لا يستطيع التعامل معها أمام الآخرين، وأن موهبته الفطرية في الإبداع لا يمكن التنظير فيها أو تحويلها إلى قواعد وأساساتٍ يمكن أن يستعيرها الآخرون بكل السهولة المتوقعة.

كل الاحتمالات واردة، بالإضافة إلى احتمالات أخرى تُبقي الباب مفتوحاً لاستنباطها بعد قراءة مزيد من تلك الكتب التي يدّعي فيها مؤلفوها أنهم يكشفون أسرار الكتابة أو على الأقل يشرحونها أمام القرّاء وأمام من يريد أن يشاركهم الممارسة. لكن ما صرتُ متأكدة منه أنهم يكادون لا يقولون شيئاً عن كتابتهم، حتى وهم يكتبون الكثير من الكلام حولها في تلك الكتب!

يقول غابرييل غارسيا ماركيز، في واحدة من محاضراته عن مهنته في الكتابة: "بالنسبة إلى منهجي في العمل، فهو شديدُ الشبه بما أقولُه الآن. لا أعرف أبداً كم أستطيع أن أكتب، أو ماذا سأكتب. أنتظرُ إلى أن يَخطر لي شيء، وعندما أعثر على فكرةٍ أعتقدُ أنَها تَصلح للكتابة، أقلّبها في رأسي حتى تَنضج. وعندما تُصبح جاهزةً (وأحياناً قد يَستغرق ذلك أعواماً كثيرة، كما في حالة "مائة عام من العزلة" التي استغرقتْ تسعةَ عشرَ عاماً من التفكير)، عندما تُصبح جاهزةً، أكَرّر، عندها أجلسُ للكتابة. وهناك يبدأ الجزءُ الأصعب والأكثرُ ضجراً. ذلك لأنّ ألذّ ما في القصّة هو استلهامُها وتخيّلُها؛ تدويرُها في رأسي؛ تقليبُها. وإعادةُ تقليبها، وذلك ما يُفقد القصة اهتمامي ساعةَ الجلوس لكتابتها".

وجدتُ تلك الفقرة منشورةً في موقع إلكتروني عربي، واحتفظتُ بها، لأنني رأيتُ فيها نموذجاً لما أودّ قوله عن كتابة الكتابة، فماركيز الذي يبدو أنه يكشف عن أحد أسراره في الكتابة أمام قرّائه لا يكاد يقول إلا ما يقوله غيره من الكتّاب من الشائع المشترك وحسب، فسرّ الكتابة لا يُتاح، كما يبدو، إلا في تلك اللحظة الغامضة التي يجلس فيها الكاتب ليكتُب، ويتلاشى بعد انتهاء الجلسة السر بين تضاعيف النص.. حيث لا يمكن اللحاق به مهما حاولنا!

CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.