رأيت مريد البرغوثي
جاء الشاعر الفلسطيني، مريد البرغوثي، إلى مصر ليدرس الأدب الإنجليزي في جامعة القاهرة. حصل على الليسانس عام الهزيمة، 1967. منعته إسرائيل من العودة، وعلق قائلا: "نجحت في الحصول على شهادة تخرّجي، وفشلت في العثور على حائط أعلق عليه شهادتي". عاش مريد في مصر، كانت منفاه، إلى أن تزوج الروائية رضوى عاشور، فصارت وطنه. بعد قليل، يأتي أنور السادات، تستقبله إسرائيل التي لم تستقبل مريدا، فتشتعل الاحتجاجات في القاهرة، يشارك مريد، ويطرد. حرمته إسرائيل من وطنه، وحرمه السادات من منفاه، وطنه الثاني، حبيبته، طفله الرضيع. يسافر، سبعة عشر عاما، تيه، ووجع، وغصة، وزوجة تقاتل وحدها، عمل، وكتابة، ونشاط سياسي، وتربية طفل (هل نكتب عن ماضي مريد أم عن حاضرنا، عنه أم عنا، عن جيل السبعينيات أم جيل يناير، عن السادات أم عبد الفتاح السيسي؟).
كان مريد صوتا شعريا مختلفا. لم يسمح لإسرائيل بأن تحتل قصيدته كما احتلت بلاده. لم يسمح لغربته بأن تنفيها، لحزنه بأن يُشقيها، لأوجاعه بأن تدفعها إلى الصراخ. كانت القصيدة عالمه الافتراضي الذي يشكله من مادة الحياة، لا الموت والغضب والكراهية. كتب للقضية ولم يكتب بها، عاش للقضية ولم يعش "على قفاها". يرفض الهتاف بالشعر، الخطابة بالقصيدة، الجعجعة والحنجورية، والمفردات المعلبة، والشاعرية الجاهزة. لم يكن مريد شاعر القبيلة، كان قبيلة من الشعر، يقول: "أنا أُبَرِّد اللغة لكي أكون أكثر إقناعا" (كم "مريد" نحتاج اليوم .. في كل شيء؟).
راهن مريد على "الجمالي" و"الإنساني"، وتتبعهما في القضية الفلسطينية، في الثورات العربية، في الهمّين، العام والخاص. صاحَبَ الطبيعة، وتحدّث بلغتها، تحرّك مع "منطق الكائنات"، ورصد "الناس في ليلهم".
لا يتحدث الفن عن الواقع، ولا يتجاوزه، إنما يعيد صياغته، يعبر عما هو كائن بما ينبغي أن يكون، وكذلك يفعل مريد، فهو لا يكتب، بل يرسم، يخلق. نصوص مريد لا تُسمع، بل يُسمع بها، يشتغل مريد على الحواس بشكل مدهش، توصل نصوصه ضوء الشمس إلى جلدك، حفيف الأشجار إلى مسامعك، صوت البحر، لونه، رائحته، النوارس، والفراشات، والليل، والنجوم، بدلالات أخرى، مباغتة، غير متوقعة. يفعل ذلك وهو يكتب عن حبيبته، ويفعله وهو يكتب عن الربيع العربي. ليس نثر مريد مثل شعره، نثره أكثر شاعريةً. في نصه الفريد "رأيت رام الله" يكتشف مريد أن زمان الغياب أفقده زمان الحضور، يعود إلى رام الله بعد ثلاثين عاما، فيجدها ذهبت، ولم تعد "بعد"، بلد آخر، واقع آخر. لا يستسلم، يلعب لعبته، ويعيد صياغة الزمان والمكان. يأخذنا إلى زمانه، ويعيدنا، إلى نهره، وأشجاره، وأهله وأصدقائه، ويعيدنا، يغمض عين التاريخ ويفتحها.
في ديوانه الأخير يخاطب مريد الموت، يحاوره، يسائله عن رضوى عاشور ومحمود درويش، (وربما يحضِّره)، "الناس نيامٌ فإذا ماتوا انتبهوا". يخايله هذا السطر النبوي، فيُعَنْوِن ديوانه "استيقظ كي تحلم"، فاليقظة موت، والحلم حياة حقيقية، دائمة، يهدي ديوانه إلى رضوى عاشور، كانت قد رحلت قبل أربع سنوات. ويقول في قصيدة بعنوان "خلود صغير": تأملت جسمي فأربكني: خلف أزرار هذا القميص الخفيف/ حاضر، مثل رُكْبَتِكَ ارتطمت بالرخام/ وماضٍ مخيف/ كذئب يفكر في طفلة/ ويصر على أن أسميه مستقبلا/ ومنازل أهلي التي غيرت أهلها/ والخسائر مصفوفة كالقواميس فوق الرفوف/ وأُغمض جسمي وعيناي مفتوحتان/ كشباك أمي/ وشباكها لك يطل على لهو أحفادها/ في حديقتها/ بل على لهو "رب الجنود" بأيامنا/ وانقلاب الصفات إلى عكسها/ وفساد الضحية من رأسها/ وانهيار المنى والسقوف/ خَلْفَ أزرارِ هذا القَميصِ الخَفيفْ/ أواصلُ أشغالَ مَن ظلَّ حَيّاً: أدفِّئُ "رضوى" من البَرْدِ/ يسهرُ عندي "مَجيدٌ"/ وتقطفُ "أمُّ منيفٍ" زُهورَ حديقتِها في انتظارِ "مُنيفْ"/ وها نحن نمشي معاً في صَباحِ الجِبالِ/ نقولُ ونَسمَعُ نتعَبُ نُبْطِئُ نرتاحُ نسرعُ نغضب نغفر ننسى نَتُوهُ قليلاً ونَسألُ/ نذْكُرُ بيتاً من الشعر للمُتَنَبّي/ ونضحكُ مِن نكتةٍ خالطت دمعنا/ هل أغيِّرُ للموتِ رأياً وأُقنِعُهُ أنه فاشلٌ؟