ذلك الحاجز الليبي الأخير
يتسابق العاملان الداخلي والخارجي على موقع الصدارة في لائحة أسباب الهشاشة الأمنية والسياسية لأي بلد لم يكتمل نموّ الدولة فيه. وتحديد المرتبة الأولى بين العاملين المذكورين أمر نسبيٌّ، وغالباً ما يفتقر إلى الإجماع. الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990)، بعد 32 عاماً على نهايتها، لا يزال يتقاذفها رأيان، واحد يعتبرها "حرب الآخرين على أرضنا" (مقولة غسان تويني)، وثانٍ يصرّ على أن الأساس فيها كان العامل الداخلي المعجون بالطائفية وبالانقسام بين مشروعين سياسيين متعارضين حدّ التناقض وبالمركزية المشددة التي جعلت كل ما هو خارج بيروت وجبل لبنان، طرفاً مهمشاً. والحال أن الداخل والخارج في أزمات بلدان كثيرة غالباً ما يندمجان في جسد واحد، ويصبح التمييز بينهما مستحيلاً، ويمسي ترتيبهما بحسب الأولوية مجرد وجهة نظر. "المسألة الليبية" اليوم تقدّم مثالاً متواصلاً منذ عام 2011 لفشل الداخل إلى درجة تستدعي تدخل الخارج. صحيحٌ أن لا طوائف في ليبيا، لكن فيها ما قد يكون أكثر تعقيداً من الطوائف. الانقسام المناطقي والقبلي هناك له مفعول المذهبية الاجتماعية والسياسية في لبنان. وضعف الهوية الوطنية على حساب الانتماءات ما دون الوطنية (المناطق والقبائل) ليس سببه الوحيد عهد معمر القذافي.
طوال سنوات عشر، كان الحرصاء على ليبيا وأهلها يضعون وقف الحرب الأهلية أولويةً تسبق أي مهمة أخرى. الدستور يمكنه أن ينتظر كذلك الانتخابات وبناء المؤسسات وحتى الديمقراطية، لكن وقف القتل والتهجير لا يحتمل التأجيل. كان مهماً التركيز على بقاء ليبيا بلداً واحداً في تلك الفترة، لا حباً بالوحدة، بل لأن التجارب تفيد بأن تفتّت البلدان على أسس قبلية ثأرية لم يؤدِّ إلا إلى اندلاع حروب أهلية أشرس من حروب زمن الوحدة. توقفت المعارك بالفعل في 2021 في ختام حوار رعته الأمم المتحدة، وقد أتى بعبد الحميد الدبيبة رئيساً لحكومة في اقتراع مصغّر لعشرات الأشخاص قبل عام من اليوم في سويسرا. عنوان الحكومة انحصر بمهمة إجراء الانتخابات في 24 ديسمبر/ كانون الأول 2021. لو حصلت، لربما كانت فرصة لاستعادة الليبيين شيئاً من المسار الصحيح في طريق بناء دولتهم. الفضيحة التي تتالت فصولها عشية الموعد الكبير، توزعت على قانون الاقتراع وعلى مفوضية الانتخابات، وقد رست قراراتها حيال المرشحين في النهاية على قاعدة: دع الجميع يترشحون فيتعطل الاستحقاق، وهو ما حصل. لكن قبل أن يتعطل بثلاثة أيام، خلط فتحي باشاغا، الرجل القوي في الغرب، ورأس الحربة في محاربة خليفة حفتر، كل الأوراق. زار عدوه اللدود حفتر بعدما سبق له أن سمّاه "مجرماً" في 2019، وتصالح معه، لا بل تحالفا على أساس أن تبدو معهما بنغازي (شرق) متحالفة مع مصراتة (غرب). برّر باشاغا خطوته آنذاك بالقول إنها كانت ضرورية من أجل "كسر الحاجز الأخير من أجل مستقبل ليبيا". وقد عكس التحالف الثنائي الجديد شيئاً من التقارب الحاصل بين تركيا من جهة، والإمارات ومصر من جهة ثانية. غربيون كثر (أبرزهم أميركا وبريطانيا) لم يكترثوا كثيراً بهذه القفزة في الهواء، وفضّلوا بقاء الرجل الذي خبروه رئيساً للحكومة (الدبيبة) في منصبه إلى حين تمرير الانتخابات على خير، وبعدها لكل حادث حديث. اليوم يُقال إن برنامج عمل الدبيبة يقوم على تنظيم انتخابات قبل يونيو/حزيران المقبل. أما باشاغا المعيّن من برلمان تابع لمعسكر خليفة حفتر، فلا ينوي تنظيمها قبل 14 شهراً.
يبقى في البال أن ديمقراطية من دون ديمقراطيين هي طبخة بحص. كذلك إن انتخابات من دون قانون "عِلمي" مستوحى من تجارب البلدان التي عرفت مراحل انتقالية ناجحة نحو الديمقراطية، ستكون مجرد تحضير لجولات جديدة من الانقسامات والاقتتال والتشجيع على التقسيم.
كسر الحاجز الأخير من أجل مستقبل ليبيا لا يمكن أن يقتصر على مصالحة رجلين تترجم مصالحات ما بين دول أجنبية، إلا إن كان المقصود كسر الحاجز الأخير للعبور نحو الاقتتال الشامل.