نعي متأخّر لهذا الكوكب
عندما انتخب الأميركيون دونالد ترامب عام 2016، توهّم أصحاب النيات الحسنة أنها كانت مجرّد نزوة، تجربة يتعظ منها المرء، ردّة فعل غاضبة ضد العولمة وأزمات الديمقراطية والمشاكل الاقتصادية المزمنة والنظام والمؤسسات والبيروقراطية. تقيّأ الرجل كل قذارته أربع سنوات، عنصريةً وكراهية وشعبوية وعجرفة وتطرّفاً واحتقاراً للبشر وللعلم وترسيخاً لسلوكيات ومواقف ذكورية لا يفيها وصف التخلف حقها، وتسبب بفوضى هائلة اقتصادياً وأمنياً وعنصرياً وصحياً في التعامل مع وباء كورونا وتشجيعاً لأعتى الديكتاتوريات وإضعافاً للعمل الجماعي العالمي وتعاملاً مع شؤون الحكم كأنه ملك عائلي، وإنكاراً لوجود كارثة مناخية تقضي بسرعة على شروط الحياة، وحماسة لحكم أشباهه من الكائنات، وتحريضاً للقوي لكي يقضي على الضعيف بالضربة القاضية، القضية الفلسطينية نموذجاً، وتعاملاً مع العلاقات الدولية من منطق تجاري ربحي. وسجّل باسمه أرقاماً قياسية في الفضائح والجرائم التي دين بمائة منها، حتى كاد أن يتسبّب باندلاع حرب أهلية أميركية في ذلك السادس من يناير/ كانون الثاني 2021.
فعل ذلك وأكثر، ثم أعيد انتخابه الأسبوع الماضي بزخم أكبر، ليظهر أن الترامبيين، أو الشعبويين واليمينيين المتطرّفين عموماً باتوا أغلبية في هذا الكون. يكفي احتساب عدد من صوّتوا لترامب في أميركا ولمودي في الهند، ولبولسونارو في البرازيل، ولميلي في الأرجنتين ولبوتين في روسيا ولأحزاب اليمين المتطرف في انتخابات البلدان الأوروبية في الأشهر والسنوات القليلة الماضية لنتنبه إلى أنّ أكثر من نصف سكان المعمورة ربما هم ترامبيون، أدركوا ذلك أو لم يفعلوا. أما سكان الأرض من غير الترامبيين، من الديمقراطيين الليبراليين المعنيين بعالم أفضل ومفتوحة حدوده ومن المؤمنين بالعلم والرافضين لكل نظرية مؤامراتية، عالم أكثر عدالة وإنسانية وأقل حساسية تجاه القوميات والوطنيات التي تميل تلقائياً مع الوقت نحو الشوفينية، عالم بلا حروب ولا يقدّس سوى حياة البشر، بشروط بيئية ومناخية مستدامة لاستمرار هذا الكوكب، هؤلاء باتوا أقلية ما بيدهم حيلة إزاء المدّ الشعبوي، يشاهدون شيئاً شبيهاً بصعود النازية بين الحربين العالميتين.
أغلب الظن أن أحداً لم يعد قادراً على فعل شيء إزاء فوز ترامب. هذا ما توحي به عشرات اتصالات التملّق التي تلقاها الرجل من زعماء العالم منذ إعلان فوزه قبل أسبوع، يتقدّمهم حكام عرب طبعاً، وحماستهم في أبوظبي والرياض والقاهرة لم تكن يوماً خافية لعودة من يصف عبد الفتاح السيسي بأنه "ديكتاتوره المفضّل". والحال أنّ سباق التملّق والشعبوية شاركت فيه بزخم وسائل الإعلام الغربية الكبيرة والرئيسية. بحجة المهنية والحياد (وما أبشع الحياد) أمكن رصد نعومة فظيعة من وسائل الإعلام التي تُسمى mainstream في وصف الكابوس الأميركي والاحتفاء به على أثير تلفزيونات وصفحات جرائد ومواقع إلكترونية. صحيفة "ذي غارديان" البريطانية خرقت حفلة الغزل الإعلامية بالرئيس ــ الكابوس، وقررت اعتماد عبارة موحّدة تستهل فيها جميع التقارير الخاصة بانتخابات أميركا، وهي: أول مجرم مدان يُنتخب رئيساً لأميركا. في مقابل هذا الوضوح والجرأة، بذلت صحيفة "لوموند" الفرنسية العريقة جهدها لإيجاد المبررات الاقتصادية لفوز ترامب، وفاءً منها لتقاليد يسارية بائسة في حصر كل الظواهر بالخلفية الاقتصادية ــ الطبقية، وتصفية لحساب عتيق مع الإدارة الأميركية الديمقراطية. على يمينها، احتفلت أقدم وكالة أنباء في العالم، "فرانس برس"، بالحدث من دون خجل بتغريدة على "إكس"، حرفيتها: "إنه تاريخ رجل لا يكف عن إذهال العالم". أما أكثر قناة تلفزيونية إخبارية مشاهدةً في فرنسا BFM tv، فقد عبّر عن سعادتها إزاء فوز ترامب، مسؤول الشؤون السياسية فيها، تييري أرنو، قائلاً: "نرفع لك القبعة أيها الفنان. لقد التقطت الغضب (الشعبي) والحاجات وجسّدتَ الجواب".
هل فوز دونالد ترامب نعيٌ متأخّر لما بقي من هذا الكوكب؟ على الأرجح هو كذلك.