دونكيشوتيّو الهوى
من يزور بيروت هذي الأيام سيحار في أمر عتمةٍ لا تني تزداد منذ عقود، من دون أن تتمكّن الدولة (أو ما تبقّى منها) من إيجاد حلول لها برغم وجودها، حيث تُجبى فواتير الكهرباء التي ارتفعت بقوّة، من دون أن يحصل اللبناني، في أحسن الأحوال، على أكثر من ساعتين أو أربع من كهرباء في اليوم. بل إنّ اللبنانيين مُهدَّدون دوماً، وفي أكثر من مرّة، بعتمة شاملة تدوم ما تدوم، بانتظار ظهور "زورو" ما يدعم حكومتهم المُعطَّلة بـ"الغاز أويل" الذي تحتاجه مؤسّسة كهرباء لبنان لتغذية التيّار الكهربائي في البلاد.
في الأسبوع الماضي، على سبيل المثال، أعلنت المؤسّسة إيّاها في بيان لها نفاد مخزون "الغاز أويل" بالكامل، ما أدّى بالنتيجة إلى توقّف التغذية بالتيّار الكهربائيّ كلّياً في جميع الأراضي اللبنانية، بما فيها المرافق الأساسية في لبنان (مطار، مرفأ، مضخّات مياه، صرف صحّي، سجون... إلخ). وقد رأينا صورَ المطار اللبناني مُعتماً عتمةً كاملةً، قبل أن نعرف أنّ مُولّدات خاصّة به عملت على تشغيل مرافقه في حدّها الأدنى. وقد قيل بافتخار، في وسائل الإعلام المحلّية، إنّ هذا لم يمنع المغتربين من الاستمرار في المجيء إلى بلادهم بوجوه بشوشة ملؤها الشوق والحنين، حتّى ليخيّل للرائي أنّ اللبنانيين العائدين من غرباتهم أشباحٌ دونكيشوتيةٌ ما زالت ترى فيه جمال الحبيبة دولسينيا، مهما كانت "مُطفَأة وحزينة"، بل مهما فُجّرت، ودُمّرت وشُوّهت واغتُصبت وافتُعلت بها أسوأ الأفعال كافةً.
نعم، اللبناني دونكيشوتيّ الهوى، مُغرمٌ بخيال بلاد لا تمنحه شيئاً، ولا تستجيب لحُبّه، بل إنّها تُضيّق عليه وتستعديه وتطرده منها شرّ طردة. ومع ذلك، ينسى أو يتناسى، ويعود ليجدها وقد ازدادت مرضاً وبؤساً وقبحاً، ولا يبالي، ويجدها وقد بُتر مزيد من أطرافها، وبيعت وشُريت وتنكّرت له. ومع ذلك، يبقى يراها جميلةً، يستمدّ من شمسها وجبالها وبحرها طاقةَ فرحٍ وعاطفةٍ لا تمدّه بهما أيّ بقعة أخرى في العالم. حتّى التهديد الجادّ والمحتمل بوقوع حرب شاملة، لا يُثنيه، واحتمال الموت تحت القصف والأنقاض وكأنّه لا يخيفه. "لقد اعتدنا الأسوأ" يقول، وقد يضيف إنّ الأسوأ بعرفنا حالة متحوّلة لا تستقرّ على حال، ولا تعرف ارتفاعاً ثمّ انحساراً، بل هي تدحرجٌ مستديمٌ حثيث نحو هاوية لا تني تتسّع ويبتعد قاعُها.
دونكيشوتية متوهّمة أم فصام، هوىً قاتل أم هَوسٌ عقيم؟... "أحلى بلد في العالم هو لبنان" (!) يُردّد معظم العائدين أمام الكاميرا، لدى استقبالهم في المطار. جملةٌ تتكرّر حتّى تبدو فارغةً من معناها، مثل طبلٍ يتردَّد صدى فراغه عالياً. ومع ذلك، وفيما القصف جارٍ في الجنوب، والقرى تُدمّر، والتهجير مستمرّ، والخطر يحوم في الأجواء، ثمّة ما يجري في المناطق الآمنة ويفوق كلَّ توقّعٍ؛ أعياد واحتفالات ومهرجانات صيفية وحفلات موسيقية ومسرحيات تُعرَض، وجمهور يؤمّ هذا النشاط أو ذاك وكأنّه في بلاد أخرى بعيدةً آلاف الكيلومترات عمّا يجري عند الحدود. دونكيشوتيةٌ خرقاءُ أم فصام؟ الاثنان معاً ربّما، لا لوم من هنا على هناك، والعكس صحيح، وإنّما اعتراف واقعي بوجود جدران فصل شاهقة كتب عليها عبارةٌ مُكرَّرةٌ واحدةٌ: "لا يشبهوننا"، هذي المرّة من الجانبين.
هل بات اللبنانيون فعلاً جماعات منفصلة متناحرة لا تشبه بعضها بعضاً؟... بحسب رؤية دونكيشوتية متفائلة في نزعها الأخير، ثمّة جانبٌ مشترك لدى الجميع قد يتبيّنه الواقف على مسافة متساوية من الأطراف كافّة؛ هذه الحدّة في المواقف، والإقدام والتطرّف في الاندفاع في هذه الوجهة أو تلك، شيء من الشعور بالعدمية، بمقاومة الواقع وعدم الرضوخ له، مهما قسا واسودَّ وخرَّب وهدّد بالأسوأ.
نعرف، نحن العائدين صيفاً إليه، الحالمين بعودة ثابتة ونهائية، أنّ البلاد تنزلق من بين أيدينا حفنةً من الرمال، وأنّ القشرة الذهبية اللامعة اختفت وبان من تحتها صدأٌ كثيرٌ، وأن أهالينا ماتوا ودُفنوا في بلاد ما عادت تشبه تلك التي سنُدفن نحن فيها، ومع ذلك، نتعلّق بحبال الهواء، بانتظار أن تأتي رياحٌ عاتيةٌ لتعيدنا إلى هناك.