دوافع بايدن لإنجاز اتفاق غزّة
يسعى رؤساء الولايات المتحدة، على اختلاف انتماءاتهم السياسية، للمشاركة في إخراج معاهدات سلام في الشرق الأوسط، وتكتسب مثل هذه المعاهدات شهرة خاصة لصعوبة تحقيقها، ولتاريخية القضية الفلسطينية، واستحكام العداء بين أطراف الصراع. فقد بذل الرئيس الأميركي، جيمي كارتر، جهوداً كبيرة لتوقيع معاهدة سلام حصل على إثرها كل من رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن والرئيس المصري أنور السادات على جائزة نوبل للسلام، بعد اتفاقات كامب ديفيد. وتكرّر المشهد بعد توقيع إعلان المبادئ بين إسرائيل ومنظمّة التحرير الفلسطينية (اتفاق أوسلو) ... وبعيداً عن بهرجة الجوائز، يفكّر رؤساء الولايات المتحدة في النجاح في فترة انتخابية ثانية، أو الخروج من البيت الأبيض بإنجازٍ ما، إن كان الرئيس في فترته الثانية.
لا تزال الصورة على حالها في الشرق الأوسط، والصراع على أشدّه، وتسعى الولايات المتحدة بشكل حثيث لتحقيق تسويةٍ ما، ويبدو بايدن فارساً في هذا المضمار. فمنذ انطلاق الرصاصة الأولى باتجاه غزّة وهو يحاول أن يحظى باختراق هنا أو هناك، بينما تسجل الروزنامة أكثر من تسعة أشهر من القتال العنيف المتواصل، ويساهم بايدن نفسه بحصّته في هذا الصراع بتغذية الجيش الإسرائيلي، ويبحث، من الجهة الأخرى، عن طريقةٍ يوقف بها النار، خصوصاً أن المعركة الانتخابية تكاد تصل إلى ذروة حاسمة، ولا يبدو أن بايدن يُبلي حسنا فيها، بعد أن ظهر بشكل غير مقنع في مناسبات عديدة، أهمها المناظرة مع غريمه ترامب.
لا يعني النجاح بجمع الأطراف لتوقيع اتفاق في الشرق الأوسط أن الرئيس الأميركي قد ضمن الفوز بالانتخابات التالية، فقد حقّق كارتر نجاحاً باهراً في هذا المجال بجمع أكبر دولة عربية مشاركة في الصراع آنذاك مع رئيس حكومة حزب يميني (بيغن) في مكان واحد، وقّعا فيه على أول وأشهر اتفاقية سلام عربي إسرائيلي، لكن ذلك الاختراق لم يمنح كارتر بطاقة ليكرّر انتخابه، فقد انتخب بدلاً منه رونالد ريغان. وحتى ترامب عرّاب اتفاقيات إبراهام، وضمّت الإمارات والبحرين، ولاحقاً السودان والمغرب، مع إسرائيل، فشل في انتخابات الرئاسة لصالح بايدن الذي ما زال يصارع للوصول إلى نقطة اتفاق في حرب غزّة. وقد رشحت قبل أيام علامات تشير إلى بعض التقارب، بعد أن قدّمت حركة حماس تنازلات، بموافقتها على التخلّي عن مطلب الحصول على تعهدات مكتوبة بوقف إطلاق النار، ثم ما لبث أن انخفض منسوب التفاؤل بتحقيق التسوية، ما يعني أن المفاوضات ما زالت تراوح، والحرب في غزّة مستمرّة، واستمرار التفاوض أصبح مطلباً بحدّ ذاته، لكونه يحقّق مصالح لإدارة بايدن.
لم يكن إصرار الساسة الأميركان على تحقيق سلام محدود أو معاهدة بين دولة عربية ما وإسرائيل ليؤثر في التحالف العميق بين إسرائيل والولايات المتحدة. فقد استمرّ تدفّق الأسلحة على إسرائيل طوال الأشهر التسعة السابقة. وكانت الإدارة الأميركية ترغب في أن تحقّق حلاً لصالح إسرائيل تحت عناوين السلام وتحقيق الاستقرار. أما حالات الضغط الأميركي على إسرائيل فلم تتعدَّ فترات من الجفاء المحدود، لتعود الأمور إلى نصابها الأول، وقد مثل هذه الجفوة بايدن نفسه، فقد كان لديه، منذ تسلّم السلطة، موقفٌ سلبيٌّ من نتنياهو، وتراجعت الاتصالات بينهما، لتعود العلاقات إلى حالتها الحارّة بعد هجوم 7 أكتوبر (2023)، وتكرّرت زيارات وزير الخارجية، بايدن، للمنطقة، وزار بايدن نفسه إسرائيل، متجاوزاً كل خلافات الماضي. وتعكس هذه السلوكيات حالة من الالتزام الأميركي العميق نحو إسرائيل، بغضّ النظر عن لون حكومتها. وضمن هذا المنطق، يحث رؤساء أميركا الخطوات لإحلال وضع من الوئام. ويعتبر تحقيق مثل هذا الاختراق إنجازاً أميركياً يحرص كل رئيس للولايات المتحدة على تحقيقه.