لبنان... اصطفافات سياسية جديدة
وجّهت إسرائيل ضربات قاسية لحزب الله بشكل متلاحق، واستهدفت جميع نقاط القوة التي بنى عليها كيانه، بوصفه مقاوماً عنيداً في وجهها، ونالت بقوة من هيبته الاستخباراتية، عندما تغلغلت بعمق في علاقاته الخارجية، واستطاعت أن تصل إلى جزء من البيئة التي ينتشر فيها، عندما استطاعت أن تفجّر بشكل متزامن آلاف أجهزة الاستقبال، في دفعتين. وربّما كان ازدواج الضربة مقصوداً لتأكيد تغلغلها الاستخباراتي، ثمّ وجّهت ضربات انتقائية طاولت قيادات ميدانية ونخبوية، بعضها لم يكن معروفاً للإعلام، وبيّنت بذلك مدى هشاشة الحزب التنظيمية، وتهافت بنيان قيادته، ولم تلبث أن وجّهت ضربةً جديدةً، بإعلان مقتل المرشح المحتمل لقيادة الحزب، هاشم صفي الدين. واستمرّت في استراتيجية خلخلة الحزب بقطع خطوط مواصلاته ومخازن أسلحته في لبنان وسورية، ووجّهت ضرباتٍ منتقاةً لحاضنته الشعبية استهدفت فيها القرى الشيعية في جنوب البلاد، والضاحية الجنوبية لبيروت، حيث مركز ثقل الحزب الرئيسي، واستكملت الطوق بتصعيد الهجمات وتكثيفها مع دخول تكتيكيّ إلى الأراضي اللبنانية، حيث تقوم باستعراضات مستفزّة، كرفع أعلامها لحثّ منتقدي الحزب على رفع أصواتهم، إمعاناً في هزّ صورته.
ضمن مخطّطها لتأمين حدودها الشمالية بشكل مستدام، تريد إسرائيل تحجيم قوة حزب الله السياسية في لبنان، وتقليص قدرته على التحكّم في هُويَّة الرئيس، وفي القرار اللبناني كله. وتعتقد إسرائيل أن حكومةً لبنانيةً لا وجود لحزب الله فيها كافٍ لضمان تنفيذ القرارات الدولية، التي تنصّ على نزع سلاح الحزب، أو على الأقل تقليص قدرته القتالية واقتصار وجوده على الجانب الشمالي من نهر الليطاني، مع تقوية الجيش وتمكينه من فرض قوته، خاصة في الجنوب. وعلى هذا الفرض وجدت إسرائيل الفرصةَ سانحةً لتحقيق غرضها، وقد ألحقت بالحزب أضراراً جسيمة، رغم أنه ما زال موجوداً في الجنوب ويطلق الصواريخ، ولكنّ الجانب النفسي لديه لم يعد بذات القوة والتماسك، وانهارت كاريزما الحزب، بعد اغتيال أمينه العام وباقي القيادات. حتى علاقاته وقبضته في الداخل بدأت بالتراخي، ولكن ليس إلى الحدّ الذي ترغب فيه إسرائيل، فالأمر بالنسبة إليها تغيير المواقف السياسية للأطراف الأخرى التي كانت تشكّل جبهةً مع الحزب.
قد يكون حزب القوات اللبنانية هو الأكثر سعادةً بما آل إليه وضع حزب الله، وقد أخذ سمير جعجع المبادرةَ بالدعوة إلى عقد مؤتمر تحت اسم "دفاعاً عن لبنان"، ولكنّ المؤتمر لم يحظَ بحماسة بعض القوى الرئيسية، حتى المناوئة منها للحزب، وأكثرها أهمّيةً تيّار المستقبل، الذي غاب زعيمه سعد الحريري عن المؤتمر، والحزب التقدّمي الاشتراكي، الذي اعتذر عن عدم المشاركة. وأحجمت قوى مُعارضة أخرى عن الحضور، وقد لا يكون عدم الحضور دعماً لحزب الله، ولكنّه رفض توجّه تبشّر به السفيرة الأميركية في لبنان، وكانت دعت قبل اللقاء إلى الاستعداد لمرحلة ما بعد حزب الله.
مرحلة ما بعد حزب الله بحاجة إلى ما هو أكثر من مجرد إضعافه (أو شلّ) قدراته، فرغم توجيه زعيم التيار الوطني الحرّ، جبران باسيل، انتقاداً لسلوكيات الحزب، لكنه ما زال يمسك شعرة معاوية، وحتى قطعها لا يعني نهاية حزب الله السياسية، فهناك تيار المستقبل الذي يمتلك ما يجعله يعارض الحزب، لكنّ موقفه من غزة قد يجعله يتردّد قليلاً، ويغيب كلّياً عن لقاء جعجع، أمّا الأكثر أهمية فهو حزب وليد جنبلاط، الذي يمثّل بيضة القبّان في معادلة لبنان السياسية (ولقّب مؤسّس الحزب التقدمي الاشتراكي، كمال جنبلاط، بـ"صانع الملوك"، قد ينطبق على ابنه اليوم) فقد غاب عن مؤتمر جعجع، لكنّه حضر اجتماعاً من نوع آخر بداية الشهر الحالي (أكتوبر/تشرين الأول) مع حركة أمل، حليفة حزب الله، بوجود رئيس الوزراء نجيب ميقاتي، وشدّد الثلاثة على انتخاب رئيسٍ لبنانيٍّ يحظى بالتوافق. وتعطي هذه المؤتمرات صورةً لما بعد حزب الله، وهي صورة اصطفافات جديدة بنكهات مختلفة، لكنها قد لا تؤثّر كثيراً في المعادلة.