في دواعي قلق الأوروبيين من ترامب
قفز دونالد ترامب فوق استطلاعات الرأي كلّها، وحقّق فوزاً واضحاً، حتى حاز غالبية الأصوات فيما عرفت بولايات التأرجح جميعها، وبفارق ملموس، ما يعني أن الناخب الأميركي موافق على رؤية ترامب، ويساند الأهداف التي يسعى إلى تحقيقها خلال مدّة رئاسته الثانية، وتعزّزت الموافقة باكتساح الجمهوريين الكونغرس الأميركي، وتابعنا قلق بعض الأوساط السياسية، خصوصاً في أوروبا، مما يمكن أن يقوم به الرئيس الجديد، رغم أن تصريحاته لا تختلف في الجوهر عن مواقف كان قد أعلنها سابقاً الرئيس الديمقراطي باراك أوباما تجاه حلفائه الأوروبيين، حين قال إن تركيز سياسته الخارجية سيكون في آسيا، وليس في أوروبا. وفي نهاية ولايته الثانية، انتقد أوباما، في مقابلةٍ مع "ذي أتلانتيك"، بشدّة تصرفات الأوروبيين ونقص الإنفاق الدفاعي، معلناً أن "المتطفّلين يزعجونني". وكان جورج بوش قبله يطالب أن تنفق أوروبا المزيد في الدفاع، لكنّ الفارق أن الرؤساء السابقين أكّدوا أهمية حلف شمال الأطلسي (ناتو)، بينما يُقال إن ترامب سيكون سعيداً بتركه تماماً، بعد أن صرّح في حملته الانتخابية أن على الأوروبيين الاعتماد على الذات والكفّ عن مناداة أميركا للوقوف في خطّ المواجهة عند أيّ تهديد. ويكتسب هذا النداء أهمّيةً خاصّةً في ظلّ تطورات الحرب في أوكرانيا وتداعياتها.
لدى أوروبا معايير عديدة تتعلّق بوضعها الاقتصادي، ومشكلات الهجرة المزمنة، وقضايا الأمن الكبرى، خصوصاً في زمن الحرب المشتعلة في قلب القارّة منذ أكثر من عامَين، ولطالما شاركت الولايات المتحدة بفعّالية في الهمّ الأوروبي، فاتّخذت موقع القائد والمموّل، وأحياناً المرشد، وهو دور ذو تكلفة عالية كما يراه سياسيون أميركيون يقتطع من حصّة المواطن، الذي يجب ألّا يُقحَم في مسألة كهذه قد تكون ضئيلة الأهمية عنده، إذ يمكن تحويل الأموال المدفوعة في سبيل الأوروبيين إلى استثمارات داخلية تنشئ مزيداً من الفرص والوظائف، الأمر الذي يعني العودة بالولايات المتحدة إلى ما قبل 5 أكتوبر/ تشرين الأول عام 1937، حين ألقى الرئيس فرانكلين روزفلت ما سمّي خطاب "الحجر الصحّي"، الذي تخلّى فيه (جزئياً) عن سياسة الولايات المتحدة الانعزالية، التي كانت متّبعةً منذ عقود، فاتّخذ موقفاً عدائياً من دول لم يسمّها تنتهك الاتفاقيات الدولية، وكان يشير إلى اليابان وإيطاليا وألمانيا، ولكن رغم سياسة الخروج من الشرنقة الحذرة تلك، لم تدخل الولايات المتحدة الحرب العالمية الثانية إلّا بعد تعرّضها لهجوم مباشر في ميناء بيرل هاربر في سبتمبر/ أيلول 1941، وعندها كان قد مضى على دخول أدولف هتلر باريس عام. ومنذ ذلك التاريخ، لم يتوقّف الانشغال الأميركي بقضايا العالم.
من الصعب على ترامب عملياً أن يخرج ممّا هو متصل بأوروبا كلّه، ولكنّه قادر على إعادة جدولة سياسته تجاهها، ولعبِ دورٍ تنظيميّ واستشاريّ بدل الدورين القيادي والتمويلي الحاليين، فقد موَّلت الولايات المتحدة الحرب الأوكرانية بشكل كبير، وكانت سبباً في استمراريتها. وتنفيذ ترامب تصريحاته غداً قد يعني مزيداً من الأعباء على أوروبا، فالرجل يرغب في تخفيض نسبة المشاركة الأميركية في حلف شمال الأطلسي، الذي يشكّل الواجهة العسكرية الأوروبية في وجه روسيا، وترفع من نسبة قلق الأوروبيين تصريحات له متعلّقة بالاقتصاد، من قبيل أن تكون شركات السيّارات الألمانية أميركية، في تلميح إلى إمكانية نقل الإنتاج إلى الداخل الأميركي، مع وعده بضرائب وتكاليف وقود أقلّ.
قد يبدو مصادفاً أن مؤتمراً أوروبياً عقد قبل أيام في هنغاريا، وضمّ زعماءَ من الدول الأوروبية كلّها، وكان واضحاً أن ظلّ انتخاب ترامب مخيماً بقوة على نتائج هذا المؤتمر الذي نصّ في بيانه على مزيد من التعاون الداخلي، وتحمّل مزيد من الأعباء، وهذا ربّما يحفّز (وقد يجبر) كلّاً من فرنسا وألمانيا، قطبي أوروبا الاقتصاديين، على مزيد من التقارب والانسجام، وهما يشكّلان العمود الفقري الذي تقوم عليه كلّ معاني الوحدة الأوروبية.