ماذا بقي لدى إيران؟
لا تكاد إيران تنام على خسارة لتستفيق على أخرى، فقد تلاحقت الضربات القوية على مفاصل أذرعها المنتشرة في المنطقة، كحزب الله وحركة حماس والحوثيين، أو حتى في الداخل الإيراني، حيث تلقّت صفعة باغتيال إسماعيل هنيّة وقادة إيرانيين في العاصمة طهران نفسها. وحاجة إيران ملحّة في الوقت الحاضر للوقوف من أجل إحصاء ما بقي لديها، وإعادة جدولة خططها التي أصيبت بأضرار متفاوتة في كل مكان، مع الأخذ بالاعتبار أن مكانتها في سورية أيضاً قد بدأت بالاهتزاز، لسببين رئيسيين: الأول، كثافة الضربات الدقيقة التي تتلقّاها تجمعاتها على كامل الجغرافيا السورية، مع صمت روسي مُطبق تجاه هذه الهجمات. والثاني، الجفاء الظاهر الذي يبديه بشار الأسد لما يحدُث لإيران، سواء في سورية أو في لبنان، ما يجعل الوجود الإيراني في خطر. وحتى لو عجز النظام في دمشق عن إخراج إيران، فإن موقفه الباهت منها يجعل قنوات التعاون معها تُغلق الواحدة بعد الأخرى. ولكن، رغم هذه الهزائم الكثيرة، ما زالت إيران قادرة على إيجاد جبهات جديدة أو أوراق تهديد يمكنها تفعيلها. ويبدو أن الوقت بالنسبة لها قد حان كي تعيد النظر في ما لديها بشكلٍ متزامن مع إحصاء الخسائر.
تبدو إسرائيل مصمّمة على إنهاء حركة حماس في غزّة، وقد عاند نتنياهو كثيرا لتحقيق ذلك. وحتى لو فشل في القضاء النهائي على الحركة، إلا أن حملته خففت إلى حد بعيد أقنية التغذية، حيث تنشر إسرائيل قواتها على كامل مناطق غزّة حتى معبر صلاح الدين (فيلادلفي) والخط الحدودي مع مصر، ولو قُدّر لإسرائيل أن تخرُج، فلن تفعل ذلك إلا بشروطٍ تحقق لها سيطرة تامة. وهنا تتراخى قبضة إيران في هذه المنطقة إلى حد بعيد، ويصبح من الصعب العودة إليها بالزخم الأولي نفسه. وهناك صعوبة أكبر أمام محاولتها نقل نشاطها إلى الضفة الغربية بسبب سيطرة إسرائيل الكبيرة، ومشقّة الوصول. أما حزب الله، فيبدو أن إسرائيل عازمة على تطبيق فعلي لقرار مجلس الأمن 1701 على الأقل، لتحقيق مسافة كافية بين حدودها الشمالية وقدرات حزب الله، وهذه وضعية تُضعف الحزب كثيراً، ومن خلفه إيران، فقد بدا أن إسرائيل أصبحت أكثر قدرة على تحقيق رقابة وتحكّم في أقنية تغذيته، بعد أن استطاعت القضاء على قائده التاريخي. وضعفُ الحزب ستقابله بالضرورة تقوية المجموعات المناوئة له في الداخل، وهذه ستعمل على رفع يده عن السياسة اللبنانية، وهنا ستجد إيران نفسها في وضع المتفرّج بعد أن كانت لاعباً أساسياً.
لم يعد لدى إيران إلا العراق، وبدرجة أقل اليمن، إذ تبدو في وضعية أفضل في العراق نظراً إلى وجود حدود طويلة مشتركة، وحاضنة شعبية ملائمة، وزيادة الوجود الإيراني في العراق بواسطة وكلاء على شكل جماعات مسلّحة أو أحزاب سياسية يمكن أن تعوّض لها بعض الخسارة الجسيمة الخارجية، ويمكن أن تزيد من دعمها مليشياتها في اليمن، بحيث يصبح العراق واليمن مرشّحين للعب دور أكبر في الحلم الإيراني، ومن خلالهما ستفكر بالعودة إلى ملفّها النووي الذي تأخذه الولايات المتحدة على محمل الجدّ، إلى درجة أنها أوصت نتنياهو بألا يقترب من المنشآت النووية عند توجيه أي ضربة انتقامية على هجومها الصاروخي أخيراً. ويبدو أن إسرائيل ستمتثل لذلك، ما يعني أن الملف النووي قضية ما زالت قابلة للتداول.
تدرك إيران أن ذراعها كُسرت في لبنان، وربما بُترت في غزّة، ولم يعد في وسع حزب الله الدفاع عنها أو توجيه ضربات بالنيابة عنها، والتهديد من غزّة قلَّ إلى حدوده الدنيا. وعلى إيران إن أرادت المواجهة بعد ذلك أن تقابل إسرائيل وجها لوجه، فالمليشات في العراق واليمن ذات جناح مهيض نتيجةً لبعد الجبهة وضعف التأثير، وقد يعتمد شكل المواجهة المقبلة على نوعية الوجوه التي ستنجح في السباق الرئاسي المحتدم في الولايات المتحدة.