دخول الجيوش في السلطة وخروجها
أرَّقت مسألة دخول الجيوش في السلطة علماء التنمية السياسية، سيَّما المعنيين بما تُسمَّى بدول العالم الثالث، أو الدول النامية، وهي مسألة تتصل بشكل رئيسي بعدة أبعاد، كقبول المجتمع، والكفاءة الإدارية سواء في العمل الحكومي أو موارد الدولة، والتنمية الاقتصادية، والمشاركة السياسية، والشفافية، وتداول المعلومات، والفساد. وإذا كان يبدو أن من العبث محاولة إيجاد تفسيرات نظرية لنظام سياسي أو حزبي في منطقتنا العربية، أو مجرّد تفاعلٍ سياسي، إذ التفاعل الوحيد هو تفاعل القوة أمام قوة، وتفاعل قوة أمام لا قوة، إلا أن محاولات البحث تبقى من أهم بوّابات تقصِّي مسارات العمل السلمي، والنضال المدني، أمام حكم الآلات العسكرية.
هناك عدة أفكار عن أسباب دخول الجيش في السلطة في دول العالم الثالث تحديدا، والتي يمكن وصفها، بتبسيطٍ غير وافٍ، بأنها التي كانت مستعمرة ثم استقلَّت، سواء في أفريقيا أو آسيا أو أميركا اللاتينية. ارتبطت الفكرة الأولى، وهي الأكثر موضوعية، بما سُمِّيت "دولة بيروقراطية مفرطة النمو"، والمقصود بالبيروقراطية الجهاز الإداري الذي يسيّر الشؤون العامة والحياتية في المجتمع، وإفراط النمو، هو محل النظر؛ فقد نشأت الهياكل الاستعمارية داخل الدولة المحتلَّة بغرض تسيير مصالح دولة الاحتلال، لا الشعب المحتل، فكانت هناك حاجة لتنظيم إداري، وقوّات تفرض الأمن من الجيش والشرطة، وجرى تنظيم هذه الاحتياجات في حدود خدمة الاحتلال.
أغفلت النظم المحتلَّة الجوانب الصحية والتعليمية والاقتصادية لتلك الدول، وهو ما يدلّل عليه برايان سميث في كتابه "كيف نفهم سياسات العالم الثالث؟"، بأن بريطانيا تركت في الهند، بعد مائتي عام من الحكم، أكثر من 80% من الأمِّيين، وتركت في غرب أفريقيا مستشفى واحدا للحُمَّى لـ30 مليون نيجيري، وكانت نسبة الأطباء إلى عدد السكان 1 إلى 60 ألفا، فأين كانت مسارات الديمقراطية والتعليم والتحضُّر التي كانت شعارات لتبرير الاستعمار، بغرض إضاءة النور أمام الأعراق "الهمجية والبدائية"؟
كانت طبيعة المجتمعات القبلية لا تسمح إلا بحكم فردٍ واحد، وكان يُعتقَد فيه الحكمة
ارتكزت عمليات التحديث على الهياكل الخادمة للاحتلال، وعقب الاستقلال، ولم تكن هناك مؤسسات مؤهلة للحكم سوى تلك القائمة على الإدارة والأمن. وبالطبع، كان مفهوما أن يقبض حَمَلَة السلاح على الحكم. ولا يتنافى هذا التصوُّر مع إمكانية ترتيب صورة الحكم بهذه الكيفية وانتقاله من قيادة مدنية إلى عسكرية، خصوصا أن نشأة الأخيرة ارتبطت بقوى غربية، كما فعل غلوب باشا في الأردن، وسليمان باشا الفرنساوي في مصر، وغيرهما.
الفكرة الثانية أحقية القوى التي انتصرت على الاستعمار بالحكم، وهو ما حدث في الدول التي كانت فيها حركات نضال مسلَّح، ووصلت الحركة المسلحة إلى السلطة، مثل جبهة التحرير الوطني في الجزائر، وكان طبيعيا أن تمسك الحركة المسلّحة بالحكم. أما غير الطبيعي فهو أن تذلّ حركة تحرر شعبها بعد ذلك، أو أن تظلّ الحركة متمسّكة بحقها في الحكم بعد زوال الاستعمار بعشرات العقود، واعتبار معارضتها خيانة، وهي المفاهيم التي كان يمكن قبولها في السنوات الأولى من زوال الاستعمار.
وتتعلق فكرة ثالثة بنظام الحكم قبل الاستعمار وفي أثنائه؛ إذ كانت طبيعة المجتمعات القبلية لا تسمح إلا بحكم فردٍ واحد، وكان يُعتقَد فيه الحكمة، وفي المجتمعات التي شهدت دولا، كما في منطقتنا، كان الحكم كذلك مرتبطا بشخص الوالي أو الخليفة، أو الحاكم بعد زوال الخلافة، فلمّا رحل الاستعمار كانت الهياكل القديمة للحكم أقرب إلى الاستمرارية، خصوصا أنه كانت هناك رغبة "للمجتمع لا النخب"، في قطع الصلة مع كل ما يتعلق بالاستعمار، فاستفاد الحكّام الجدد من فكرة "احتكار الحكمة"، وظهرت الكلمتان الشهيرتان "مجتمعاتنا ليست مستعدّة للديمقراطية"، "نحن لنا طريقتنا الخاصة في الديمقراطية".
في إطار السيطرة على المجتمعات وتأميمها، أظهرت الأنظمة العسكرية (العاقلة بعض الشيء) أدوات للسيطرة الاجتماعية
كان لافتا أن النُّظم العسكرية الجديدة اقتبست نموذج المركزية من الغرب، واستبعدت التشاركية السياسية، فهناك أخْذ ونبْذ، أو محاكاة ومجافاة للنظم الغربية، وكِلَا الفِعْليْن لمصلحة الاستبداد لا المجتمع، وآية ذلك أن سياسات الاستعمار السابقة في تعظيم بيروقراطية (الإدارة والأمن) استمرّت، مع إغفال أولويات التعليم والصحة في عديد من مجتمعات العالم الثالث، مع استثناءاتٍ قليلةٍ في الدول الثرية كالخليج، أو النامية بقوة كجنوب شرق آسيا.
كانت نتيجة الدخول في السلطة أن شعر هؤلاء القادة بالنفوذ المطلق، والثراء اللا محدود، فأصبح هناك تفسيرٌ جديد للاستمرار في السلطة، يتعلق بمكافآت السلطة التي لا يمكن التخلّي عنها بسهولة، وهذه مسألة أكثر عمقا من الفساد الذي يضرب مجتعات العالم الثالث، إذ الدولة فيه هي المصدر الرئيسي للتنمية واستقبال التدفقات المالية، وصرفها أيضا، ما يجعل من العسير على أي معارضٍ أن يوجِد لنفسه مصادر مالية بديلة، في ظل الانسداد السياسي، والتحكّم بمفاصل الدولة، وبالتالي بحياة المواطنين، فأصبحت الدولة تَمنح وتَمنع وفقا للهوى السياسي، لا الجدارة الإدارية.
في إطار السيطرة على المجتمعات وتأميمها، أظهرت الأنظمة العسكرية (العاقلة بعض الشيء) أدوات للسيطرة الاجتماعية، فقدّمت الحوافز الاجتماعية في صور الدعم الحكومي للسلع الأساسية. وفي الواقت نفسه، سحبت من المجتمع أدوات التمكين السياسي، فلم تسمح بالحرّيات السياسية، ولم تسمح بالمشاركة في صنع القرار، حتى على مستوى البلديات/ المحليات، وكان هذا وفقا لقاعدةٍ عبّر عنها جوزف لابالومبارا وميرون فاينر، بأن "الكتلة الجماهيرية يجب أن تُشارك، أو تتم السيطرة عليها".
تعتمد المفاوضات بين الجيش والمعارضة على وضع المؤسّسة العسكرية بشكل عام
اختارت الأنظمة العسكرية خيار السيطرة بأدوات القمع السياسي، بعدما جرى استبعاد المشاركة بوصفها خيارا، في إطار الحزب الواحد مثلا، فغابت صور التنافسية السياسية، وبالتالي، غابت المشاركة السياسية أيضا، عند إجراء أي استحقاقٍ تصويتي؛ فالمجتمعات فهمت أن دورها لا يتعدّى تجميل النظام الاستبدادي، فعزفت عن المشاركة، وهذه قاعدةٌ بديهيةٌ في العلوم السياسية "التنافسية قبل التشاركية السياسية"، فإذا غابت التنافسية السياسية في النظام السياسي لن يشارك المجتمع في السياسة عند استدعائه.
طرح هنتنغتون في كتابه "الموجة الثالثة" عدة صور لخروج الجيش من الحكم، كان أيسرها وجود قادة عقلاء تجعلهم يقرّرون الخروج من السلطة. ونظرا إلى قوة الجيش، يكون مسار الخروج من السلطة طواعية سهلا، خصوصا أن مفاوضات الخروج من السلطة تضع دوما في الحسبان هذه القوة التي تمكِّن قادة الجيش من العودة إلى السلطة إذا أرادوا.
تعتمد المفاوضات بين الجيش والمعارضة على وضع المؤسّسة العسكرية بشكل عام. وطرح هنتنغتون ثلاث صور؛ أولا إذا كانت المؤسّسة قوية، وقرّرت بنفسها التخلي عن الحكم، فإنها تضع شروطها، ولا حلّ أمام المعارضة سوى قبولها، وهذا ما حدث في البرازيل، مثلا، أما إذا تساوت موازين القوى، فيمكن للمعارضة أن تفرض بعض شروطها وتجعل المؤسّسة تتراجع جزئيا، كحالة الأوروغواي. وأخيرا، إذا كانت المؤسّسة تعرضت إلى هزيمة عسكرية، وازدادت الضغوط الشعبية ضدها، فإنها تخرج من دون شروط، كما حدث في الأرجنتين واليونان.
لم يبق أمام منطقتنا أي تجربة سوى قرار تنازل المؤسّسة العسكرية عن الحكم طواعية، وهو خيارٌ يبدو صعب المنال
إذا انتقلنا إلى واقع منطقتنا العربية، نجد اختلافات مزعجة لتنظير هنتنغتون؛ فمثلا تعرّض النظام العسكري في مصر، والنظام في سورية إلى هزيمة تبعها احتلال لبعض الأراضي عام 1967، ولم يتراجع الحكام عن مواقع السلطة، بل زاد التشبث بها، ولم تكن هناك معارضة أصلا تحت وطأة الاستبداد، وعندما قامت ثورات مدنية عاميْ 2010-2011، استجابت جيوشٌ لحركة الجماهير (مصر وتونس)، ورفضت أخرى (سورية وليبيا واليمن)، ثم ما لبث الجيش المصري أن استفاد من ميزان القوة وعاد إلى الحكم، بدعم من قوى سياسية، ولم يبق أمام منطقتنا أي تجربة سوى قرار تنازل المؤسّسة العسكرية عن الحكم طواعية، وهو خيارٌ يبدو صعب المنال، إلا ما فعله المشير عبد الرحمن سوار الذهب في السودان في 1986.
ينبغي أن يقوم النقاش الوطني داخل المؤسّسات العسكرية، وداخل الأنظمة السياسية الوطنية، على قاعدة واحدة، "هل ينبغي الحفاظ على الجيش كحكومة، أم الجيش كمؤسّسة؟"، والاختيار الوطني سينحاز من دون قيد للجيش، باعتباره من مؤسّسات الدولة، لا حاكما لها، فانشغال الجيوش بالحكم يعني انشغالها عن الدفاع، وتورّطها في الفساد الموجود في الأجهزة البيروقراطية، ويا له من حال يفتح الباب على مصراعيه لتلويث مؤسّسة الدفاع، وربما احتلال بلد بأكمله لضعف جاهزية الجيوش التي أصبحت إدارية لا عسكرية.