هل يمنع "التصعيد لوقف التصعيد" الحرب؟

15 أكتوبر 2024
+ الخط -

استطاع الاحتلال الإسرائيلي تحقيق إنجازات استخباراتية وعملياتية بدأت في إيران باغتيال إسماعيل هنية، ثم تصاعدت على نحو سريع في لبنان باغتيال كبار قادة حزب الله، وفي مقدمتهم حسن نصر الله، ما أحدث مأزقين؛:أولهما لإيران ومحور المقاومة، وطبيعة الرد الذي سيحدثونه، والثاني لنجاحات عملية طوفان الأقصى، والأزمة التي عاشتها دولة الاحتلال بسببها منذ أزيد من عام، وبدأت تنتشي بانتصاراتها على إيران وحزب الله، ما جعل تلك النجاحات تنزوي أمام التقدّم الصهيوني في الأسابيع الأخيرة.

بدأ نتنياهو يتخفف من عبء الأسرى الإسرائيليين في غزّة، واتجه إلى الشمال بقوة، مخرسا أصوات الانتقادات والمطالبات الداخلية على وقع الاستعداد للحرب في الشمال، وساهم تحقيق الإنجازات في الساحات الإيرانية واللبنانية والسورية في إجبار بعضهم في الداخل الصهيوني على التماهي معه، والانخراط في حكومته، والصمت على مطالبات وقف حرب غزّة، بل وقبول الحرب في الشمال. وأغرت هذه الانتصارات الولايات المتحدة بقبول "إدارة الحرب في لبنان"، بدلا من وقف القتال عموما، وسادت نغمة الموافقة على "تدخل برّي محدود"، و"إزالة تهديد حزب الله من على الحدود"، وما إلى ذلك.

تداخلت هذه العوامل مجتمعة لتضع ضغوطاً شديدة على إيران وحلفائها، خاصة أن الوضع بات القبول بالهزائم وفك الارتباط مع غزّة أو التعامل مع الاحتلال بالمنطق نفسه الذي دفعه إلى الجموح بهذه الطريقة، وهو منطق "التصعيد لوقف التصعيد"، وهو إطار شديد الخطورة، إذ قد يؤدّي خطأٌ إلى إشعال الحرب الإقليمية التي تحاول جميع الأطراف عدم الانخراط فيها.

الهدف العسكري بإخضاع "حماس" لم يتحقّق

دخلت الحركاتُ المقاومة، وتحديداً حزب الله في لبنان، المعركةَ بسقف واضح، وهو تخفيف الضغط العسكري على قطاع غزّة، بما لا يسمح بتحقيق انتصار عسكري صهيوني على المقاومة في القطاع. ورغم تدمير القطاع تقريبا، تحقّق هدف الحزب بقاء المقاومة في القطاع، والاحتفاظ بالأسرى، وسلامة قائد حركة حماس، يحيى السنوار، ولا نعلم يقينا وضعي القائدين، مروان عيسى ومحمد الضيف، لكن القدر المتيقن أن الهدف العسكري بإخضاع "حماس" لم يتحقّق، بدليل التأكيدات الصهيونية أن أي انسحاب من مكان ما في القطاع تتبعه عودة إلى السيطرة المدنية لـ"حماس"، فما بالك بالوضع العسكري!

كذا لم يتحقق الهدف السياسي بإخضاع الحركة وفرض الإملاءات عليها، رغم اغتيال قائدها إسماعيل هنية، وهذا الإخفاق الصهيوني، رغم الدعم الأميركي والبريطاني وغيرهما استخباراتيا وربما عمليّاً، يرجع الفضل فيه إلى استعدادات المقاومة في غزّة، وكذا إلى دور حزب الله وباقي جبهات الإسناد، وإنْ بدرجة أقل من الاشتباك المباشر للحزب الذي قدَّم مئات الشهداء في المعركة.

وكشف حزب الله عن إخفاقات استخباراتية في الكيان المحتل، كدخول الطائرات وتصوير القواعد والمناطق الحيوية، وأسماء بعض قادة الوحدات وتاريخ تعيينهم، وما إلى ذلك، وهذه الخروق الاستخباراتية كبيرة، لكنها لا تُقارن باغتيال القادة الكبار وعمليتيْ أجهزة الاتصالات. ومع ذلك، كشفت عن خروقٍ في جدار الاستخبارات الإسرائيلي الذي يتباهى بأنه الأقوى في المنطقة، فكانت هناك حاجة لترميم جدار الردع الصهيوني بعملية كبيرة، وبالفعل استطاع الكيان ترميم الصورة الذهنية له، بعد 11 شهرا من سحق كرامته في غزة وغلافها.

النجاح في لملمة الأوراق وعدم الاندفاع الذي قد يؤدّي إلى تعميق الأزمة، يسهمان في تحسين اتخاذ القرار، وبالتالي، الانتقال من مربّع استنزاف النقاط إلى اكتسابها

بعد العربدة الإسرائيلية، أصبح محور المقاومة في موضع الحاجة الضرورية إلى الرد، وهو في لحظة تراجع كبيرة غير عابرة، وفي تلك اللحظة من لحظات التراجع والألم، من المهم إدراك أن الإخفاقات الكبرى تحدُث في المعارك، والعبرة بمآلات المعركة لا حوادثها. ورغم أهمية الحوادث الكبرى، بالطبع، في سيرورة المعركة، فإن النجاح في لملمة الأوراق وعدم الاندفاع الذي قد يؤدّي إلى تعميق الأزمة، يسهمان في تحسين اتخاذ القرار، وبالتالي، الانتقال من مربّع استنزاف النقاط إلى اكتسابها.

ما يبدو أن محور المقاومة كان مستوعبا أهمية التعامل بهدوء من دون انفعال أو ظهور أمارات الانهزام، في ظل حاجة إيران، وحزب الله تحديداً، إلى تحصين معادلات الردع بعد الخروق الكبيرة، وانتبه الطرفان إلى قصر الاستهداف على الجوانب العسكرية؛ من منشآت وأفرادٍ، إذ لا يستلزم الردع إعلان الحرب، فالحرب تعني إلغاء قواعد الاشتباك والردع كذلك. وعليه، جاءت الردود التي بدأت تعيد ضبط الكفّة مرّة أخرى.

أظهرت إيران يوم 1 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري أن هناك ثمنا سيُدفع، وتعاملت بالمنطق الصهيوني نفسه؛ "التصعيد لوقف التصعيد"، واستطاعت الأسلحة الإيرانية اختراق الأجواء المحتلة رغم مساهمة قوى عظمى في صد الهجوم، ومشاركة عربية للأسف. وفي الجبهة اللبنانية التي كان ينبغي انهيارها بعد اغتيال معظم كبار قادتها، استمرّت العمليات من دون توقف، وبعد الاصطفاف العسكري الصهيوني على الحدود، زادت العمليات بقوة كبيرة، ومع بدء محاولات التوغل البرّي مُنيت هذه المحاولات بإخفاق كبير، وسقوط العسكريين من جيش الاحتلال بأرقام صادمة، ما أظهر تماسكاً عسكريا ملحوظا رغم الخسائر الكبيرة.

العبرة بالمآلات وتحقيق الأهداف السياسية والعسكرية، لا بالإجرام والتدمير اللذيْن يعدّان سمة لا تنفصل عن سلوك العدو منذ نشأته البغيضة

أوصل هذا الوضعُ رسالةً واضحة، أن هناك فرقاً بين النجاح التكنولوجي والاستخباراتي والمواجهة على الأرض، فمثلا ذكرت صحيفة يديعوت أحرونوت أن "المنطقة التي قُتل وأصيب فيها 36 ضابطا وجنديا إسرائيليا، قصفها الجيش بـ650 غارة منذ بداية الحرب"، صبيحة يوم 2 أكتوبر/ تشرين الأول، بعد أولى محاولات التوغل البرّي الصهيوني. ومنذ ذلك اليوم، تتوقف محاولات اختراق الحدود أمام كمائن حزب الله، ما يؤكّد صحة تحليلاتٍ عن فوارق كبيرة بين العمليتين في غزّة وجنوب لبنان، فضلا عن إنهاك جيش الاحتلال واقتصاد دولته نتيجة الغرق الكامل في غزّة من دون مكسب، ما يضع علامة تساؤل كبيرة، في الداخل الصهيوني، عن مدى قدرة جيشهم على تحقيق إنجازات في ساحة أكثر تسليحاً وعدداً، فضلا عن خبرتها العسكرية، ووجود خط إمداد عسكري مفتوح لها، وهي العناصر التي لا توجد في قطاع غزة بنفس الصورة، ورغم ذلك لم ينجح جيش الاحتلال في فرض إرادته.

أصبحت قيادة الاحتلال في موضع رد الفعل مرّة أخرى، وعاد الداخل يضغط لإنهاء الحرب في الجبهات المفتوحة، وإعادة الأسرى، وسيحدّد سلوك قادة الاحتلال مسار المنطقة في مقبل الأيام، فإما أن نكون بين تبادل لعمليات عسكرية إيرانية – صهيونية من دون الدخول في مواجهة شاملة بين الطرفين، أو أن تنزلق المنطقة إلى حربٍ بين إيران وحلفائها من جهة ودولة الاحتلال ورعاتها في أميركا وأوروبا، ويبدو أن لا أحد معنيٌّ بهذا الخيار سوى نتنياهو المتمسك بكرسيّه على حساب عشرات آلاف من أبناء أمتنا، وعشرات من بني وطنه.

لقد أحسن حسن نصر الله، قبيل رحيله المؤلم، عندما بدأ خطابه الأخير ببيان أن الحرب سجال ودُول، ولم يفصح عن ردٍّ سريع وكبير، وأشار إلى أهمية تعطيل أهداف العدو، رغم التدمير الذي يتسبّب به، وكان هذا الخطاب مطمئنًا، فهو يعني إدراك مؤسّسات الحزب الفارق بين الفعل والغاية منه، وتعطيل الغاية إحدى درجات النجاح، كما بدا من خطابه أن الحزب لن يتعجّل الرد، وهذا كان مطمئناً أيضاً، إذ قد تتسبّب القرارات الانفعالية في عدم تقدير الأمور بصورة جيدة، ومرّة أخرى ستبقى العبرة بالمآلات وتحقيق الأهداف السياسية والعسكرية، لا بالإجرام والتدمير اللذيْن يعدّان سمة لا تنفصل عن سلوك العدو منذ نشأته البغيضة.

المثنّى - القسم الثقافي
المثنّى - القسم الثقافي
شريف أيمن
كاتب وصحافي مصري
شريف أيمن