في واقع القضية الفلسطينية
قاربت حرب الإبادة الصهيونية على قطاع غزّة عاماً، وهي أطول الحروب التي يخوضها الكيان المحتل ذو التاريخ القصير. ورغم دموية هذه الحرب، ومع الآلام الشديدة والجراح التي أثخنتْ وجداننا، بقدر ما أثخنت في أهل القطاع البطل المحاصَر، فإن واقعاً جديداً فرض نفسه، رغماً عن أنوف الصهاينة والأميركان وحكام إقليميين، لا يزالون يتمنّون خسارةَ الفلسطينيين أشرف معارك الأمة وأشرسها. وهناك مستويات عدّة يمكن رصد التغيرات فيها؛ على مستويات: العدو الصهيوني، والقوى الدولية المتحكّمة في المنطقة، وحكّام منطقتنا، وشعوبها، والقضية الفلسطينية.
مرّت الدولة الصهيونية، قبيل طوفان الأقصى، بحالة انقسام داخلي غير مسبوق، فقد أُجريت خمسة انتخابات تشريعية في آخر خمس سنوات، إبريل/ نيسان وسبتمبر/ أيلول 2019، ومارس/ آذار 2020، وفي الشهر نفسه من عام 2021، وأخيراً في نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، وهي الحكومة الحالية التي منيت بأكبر إذلال سياسي وعسكري، بالنظر إلى محدودية إمكانات القوات التي تحاربها.
عمَّق الطوفان من مرارة الانقسام، ويظهر ذلك في الإعلام العبري الذي يناقش الخلافات الداخلية القائمة داخل المستوطنات، بين المؤيد لصفقة ومعارض لها، وانتقال ذلك إلى مشاحنات واتهامات متبادلة، أما الخلافات الأكبر فمستعرة بين سكان مستوطنات الحدود مع لبنان أو الحدود مع قطاع غزة من جهة، ومع سكان المدن الكبرى، سيما تل الربيع (تل أبيب)، إذ إن الشعور المتولِّد لدى سكان المناطق المحاذية للعمليات العسكرية أن حكومتهم لا تهتم بهم بقدر واحد، فسكّان الشمال غاضبون من رد فعل حكومتهم على الهجوم، بينما يعيشون هذا الواقع يومياً، ولا يغضب أحد بالدرجة نفسها، ولا نغفل أن الرد الصهيوني في الحديدة (في اليمن) يرقى إلى جريمة ضد الإنسانية، إذ تسبّب في تدمير ميناء بحري؛ ما سيمنع رسوّ السفن التجارية والغذائية.
ووصلت الاتهامات بين الوزراء إلى مداها بمقارعة أهم منصبين في كيان الاحتلال بعضهما؛ رئيس الوزراء نتنياهو، ووزير الحرب غالانت، وبالطبع لم يفوّت نتنياهو الفرصة ليبث اتهاماً مبطّناً لغالانت، وهو يقول: "كان عليه [غالانت] أن يهاجم يحيى السنوار"، وطاولت الاتهامات الرئيس الأميركي، جو بايدن، من الوزير المتطرّف بن غفير الذي اتهمه في فبراير/ شباط بدعم حركة حماس بسبب مواقفه، ما تسبب في مشاحنات علنية وقتها.
فوق ذلك كله، أصبح الاحتلال عارياً أمام مئات الملايين من البشر الذين اكتشفوا فجأة أن "الديمقراطية الوحيدة في المنطقة" مجرّد كيان دموي، شرِه لدماء الفلسطينيين والعرب، وأصبحت الدبلوماسية الغربية، على تواطؤها، ترى كياناً مارقاً يشعل الأزمات بقتل القادة الكبار للحركات المقاومة، ويتعنّت على طاولة المفاوضات، ويجرّ المنطقة جرّاً إلى حربٍ إقليمية، والمؤكّد أن نتنياهو يعلم جيداً أنه لن يبقى وحيداً إذا أذكى نارَها، فالمشروع الصهيوني أكبر من أن يسقط عند الغرب والأميركان، لذا فهو مطمئنٌ إلى صحّة اختياره الذي لن يخدم أحداً سواه.
دولياً، بدت القوى الكبرى العابثة والمتحكّمة في مصائرنا أصغر حقيقة مما كان يُسوَّق لنا، فأميركا وبريطانيا وألمانيا وفرنسا أعلنت دعمها استخباراتياً للكيان الصهيوني المارق، وهذه الدول بقدراتها المنفردة، فضلاً عن المجتمعة، لم تستطع الوصول إلا إلى أربعة أسرى لدى المقاومة الفلسطينية، ما جعل صورتهم المتعاظمة في الإعلام شديدةَ المحدودية على أرض الواقع، فالقطاع محدود المساحة وسهل التضاريس، ورغم ذلك لا يمكن الوصول إلى الأسرى، سوى هؤلاء الأربعة، ولا اعتبار هنا للوصول إلى أسرى رفح الذين كانوا لدى أُسرة، لا حركة مقاومة، واستطاع الاحتلال استردادهم منتصف فبراير/ شباط الماضي.
أصبح الاحتلال عارياً أمام مئات الملايين من البشر الذين اكتشفوا فجأة أن "الديمقراطية الوحيدة في المنطقة" مجرّد كيان دموي
جرّأ هذا الضعف محور المقاومة على الوقوف بوجه الأميركي والبريطاني والصهيوني، وهو ما رأيناه في الهجمات الحوثية المستمرّة في البحر الأحمر، كذا في الهجوم الإيراني على كيان الاحتلال، بغضّ النظر عن كونه محسوباً أو لا، لكنه سابقة جديدة رغم التحذيرات، بالإضافة إلى رأس هذا المحور؛ حزب الله الذي لم يوقف هجماته، رغم التحذيرات المتكرّرة الموجّهة إليه.
بالطبع، لا يمكن المرور على أسماء هذه الدول وتجاهل التاريخ الاستعماري لفرنسا وبريطانيا في المنطقة، واتفاقية سايكس - بيكو، والتاريخ الخشن والاستعماري أيضاً لأميركا بعد تسلم الراية من الإنكليز والفرنسيين. والشاهد أن الدول التي خرجت، ظاهرياً، من المنطقة، عقب الحرب العالمية الثانية، وجدت نفسها مستدعاةً ومجتمِعةً لإنقاذ كيانهم الضعيف الهشّ، بعدما ظنّوا أن ثمانية عقود كافية لاستقراره، ثم اتّضح أنه حمل خارج الرحم الطبيعي، وسيظلّ مضرّاً بجسم المنطقة، ومصيره الخروج حتماً، لأن لا حمْل خارج الرحم الطبيعي يبقى.
وعلى مستوى حكام منطقتنا، لا جديد يُذكر في التواطؤ ضد فلسطين والقضية والحركات المقاوِمة. والعلامة الوحيدة الجيدة، أن عبد الفتاح السيسي في مصر تراجع قليلاً أمام ضغط مؤسّسات الدولة في مواقفه المتطرّفة من القضية الفلسطينية، وبدلاً من التماهي والخضوع الكامل لكل المطالب الصهيونية، تصرّ مصر على خروج الاحتلال من محور صلاح الدين/ فيلادلفيا، كما أصبح الخطاب الإعلامي المصري مهاجماً الاحتلال على الدوام، وداعماً للمقاومة، بخلاف عدوان 2014 مثلاً، فالحاصل أن الحاكم الذي لم يكن يتوقّف عن أخذ أي موقف يراه، استطاع "طوفان الأقصى" أن يجعله يتوقف، بل ويتراجع عن مخطّطات تصفية القضية، ومنها حديثه العبثي والمتواطئ عن تهجير أهل قطاع غزّة إلى النقب لتصفية الحركات المقاومة، كما كان يطرح بداية العدوان.
على مستوى الشعوب، يبدو أن حملات تشويه الوعي وتزييفه لم تؤتِ أُكُلها، ولا أدلَّ على هذا من حملات المقاطعة التي قصمت ظهر الشركات الداعمة للاحتلال، لكن الحديث عن الشعوب يستدعي حديثًا عن الفن ودوره المتخاذل والداعم لتخدير الوعي تجاه القضية الفلسطينية، وهو الموقف الذي لم نره مثلاً إبّان الانتفاضة الفلسطينية الثانية، ومشاهدتنا، وقتها، أوبريت الحلم العربي بجزأيه، وقد كانت الأعمال الفنية لا تنفصل عن القضية الفلسطينية ورمزيّتها في جميع الأعمال تقريباً، بما فيها الكوميدية أو الرومانسية، ما يعكس وعي كتَّاب الأعمال والفنانين بأهمية القضية. لكننا للأسف نجدهم ينسون القضية في أعمالهم عقب انتكاسة الثورات، وتصاعد تشويه الحركات المقاوِمة. ومنذ ذلك الحين، غابت القضية عن الوجدان الفني، وإذا كان هناك رفض لحركات المقاومة في ذلك الوسط، فلا يجدر تغييب القضية كلها، فالقضية ليست في الإسلاميين أو المقاومة عموماً، بل تمسّ القضية الشرف والأرض والروابط التاريخية والدم الواحد.
كانت الأعمال الفنية لا تنفصل عن القضية الفلسطينية ورمزيّتها في جميع الأعمال تقريباً، لكنها تغيب اليوم مقابل تصاعد تشويه الحركات المقاوِمة
وهناك ملاحظة أخرى في هذا السياق، أن الفنانين أبناء المناطق الشعبية تجاهلوا، كذلك، فلسطين، رغم رمزيتها في التكوين الاجتماعي في المناطق الشعبية، ما جعل أحدَهم يتحدّث عن أبي عبيدة في لحظة، ثم شارك في إعلان لشركة مدرجة على قوائم المقاطعة، ما يطرَح تساؤلاً مهماً: هل الإشكال في تشويه الوعي، أم المشكلة متعلقة بالوسط الفني ذاته؟ وهنا لا تكفي تظاهرة نقابة الفنانين مع بداية العدوان على غزّة، بل الحديث عن محو وجود القضية الفلسطينية من الأعمال الفنية بالكثافة ذاتها مطلع الألفية الحالية، ومن دون تشويه لحركات المقاومة.
وعلى مستوى الأغنيات أيضاً، نجد انحداراً أكثر، فالحفلات العربية أصبحت وقحة وفجّة في ظل المجازر، وألغى بعض الفنانين احتفالاتهم بسبب الأوضاع الأمنية، وهناك من ألغى احتفالات خاصة لظروف وفاة أربعة منتجين مصريين، لكن لا أحد فكَّر في إلغاء حفل أو عمل بسبب المجازر، سوى الشاب محمد سلَّام، ولقي هجوماً شرساً من زملائه في الوسط.
تكون المواقف بطبعها مبنية على الثقافة المتجذّرة في تكوين المجتمعات، وفي الخليج كانت الثقافة الدينية المحرّك للمواقف الاجتماعية، كسائر دول المنطقة، لكن عملية تنحية للدين بدأت في العراق والشام ومصر منذ القرن الماضي، ومن أجل نزع التأثير الديني، ظهرت المفاهيم القومية، وهذه بطبعها غير معارضة للمفاهيم الدينية، لكنها أرادت حصر الروابط الاجتماعية في الجانب القومي واستبعاد الرابطة الدينية الأوسع. وبالفعل، تعزّزت هذه الثقافة القومية في تلك المجتمعات، وكانت قضية فلسطين من محرّكات التفاعل القومي، فالحاصل أن هناك خطَّ دفاعٍ ثانياً، سمح لشعوب تلك المنطقة بالحفاظ على درجة عالية من المقاومة للمشروعات الأجنبية.
أخيراً، في ما يتعلق بالجانب الفني، التحجج بأن لدى هؤلاء الفنانين التزامات، ولا يمكنهم إيقاف الحفلات، مردود عليه بأن الموقف الأخلاقي أولاً لا يحتاج مراوغة، وغير مقبول أن تحارب مصر في عام 1973 وتجري حفلة في بيروت في الوقت ذاته، وسيكون موقف المصريين حينها شديد السلبية من تلك الدولة والمجتمع، والفلسطينيون ليسوا أقلّ درجة من سائر العرب ولا سائر البشر، بل هم سادة على الرؤوس.
أصبح العالم لا يتحدّث عن حصار غزة ووجوب إنهائه، بل عن ضرورة إقامة دولة فلسطينية على حدود 1967
أما الناحية الاقتصادية التي يتذرعون بها، فمعلومٌ أن إيقاف جميع الأنشطة يمثل أحد أوجه الضغط على الحكومات، ما سيجعلهم يتحرّكون كذلك لإنهاء العدوان، لتخفيف آثاره الاقتصادية والاجتماعية والسياسية على الواقع الداخلي، لكن ما حدث أن الأنظمة تستفيد من تغييب الوعي، ومن تجاهل القضية، وإنهاء الحفلات سيجعل الوعي أكثر تركيزاً ناحية فلسطين، وهو أمر غير مرغوب عربياً وإقليمياً ودولياً.
وعلى المستوى القضية الفلسطينية، لا بد من الإقرار بفداحة الثمن المدفوع لأجلها، مع تجاوزنا حاجز 40 ألف شهيد، ونحو مائة ألف جريح، وعشرة آلاف مفقود، والتدمير الكامل للقطاع، ورغم هذا الثمن المدفوع، أين أصبح موقع القضية؟ ... منذ وصول ترامب إلى السلطة في الولايات المتحدة عام 2017 دخلت القضية الفلسطينية أسوأ حقبة لها، امتداداً لما جرى في مصر منتصف 2013، والارتداد العكسي المميت لمسيرة الديمقراطية، وتحرّر الرأي الشعبي والرسمي، حينها، من الإملاءات الأميركية بدرجة كبيرة، وقد أصبحت الحدود المصرية بعد الانقلاب معادية، وليست مجرّد موصدة، واعتقال عناصر من كتاب الشهيد عز الدين القسّام سنوات في المخابرات الحربية كان أحد مؤشّرات هذا العداء، كما كان الإعلام المصري يعادي القطاع في أثناء عدوان عام 2014، ويطالب بإبادة حركة حماس.
بعد وصول ترامب، أصبحنا أمام تغيّرات إقليمية مرعبة، فالسفارات بدأت تنتقل إلى القدس لتصفية القضية الفلسطينية تماماً، وتسارعت أعمال الهدم والتهجير والتغيير الديمغرافي في المدينة المقدسة. وبعد سبعة عقود من المقاطعة العلنية لإسرائيل، بدأت دول عربية بعقد اتفاقيات مع الكيان الغاصب، في ما سُميت "اتفاقيات أبراهام"، بل تجاوز الأمر الحدود الطبيعية إلى التطبيع الشعبي في الإمارات التي امتازت بمواقف واضحة ومشرّفة في ذلك الشأن خلال فترة حكم الشيخ زايد. وأصبحت القضية تلفظ أنفاسها الأخيرة بالفعل، خصوصاً مع قرب التوصل إلى اتفاق تطبيع مع السعودية، وانهيار كل مسارات تثبيت حقوق الفلسطينيين.
وضع طوفان الأقصى الفلسطينيين على الخريطة مرّة أخرى، وهذا، بحدّ ذاته، نصر عظيم
... كان لا بدّ من هذه النظرة التاريخية لشرح الوضع اليوم، فبعد هذا الحال المتردّي، أصبح العالم لا يتحدّث عن حصار غزة ووجوب إنهائه، بل عن ضرورة إقامة دولة فلسطينية على حدود 1967، وقد يتحفظ كاتب السطور على فكرة هذه الحدود، فالحد الأدنى الذي يجب القبول به مبدئياً هو حدود 1947 وفقاً لقرار التقسيم الجائر أصلاً، ولكن هذه مسألة أخرى.
إذاً، انتقلت القضية من مرحلة تجاهل الحقّ الفلسطيني إلى الانتباه إلى أن هناك حقّاً لذلك الشعب الذي يعاني منذ بدء الاحتلال، وأن هناك مستوطنات غير شرعية، كذلك ارتفع الوعي بالقضية عالمياً بصورة ملحوظة، وبدأت أصوات في الغرب ترفع شعار من النهر إلى البحر، بمعنى إنهاء المشروع الصهيوني، لا إبادة اليهود، وهذه تطوّرات لم تكن متوقعة. كذلك انكسر مفهوم الردع الإسرائيلي، وأصبحت الشعوب العربية توقن بضعف (وهشاشة) هذا الكيان غير القادر على إنهاء معركة في قطاع صغير محدود المساحة، وأمام مقاتلين غير نظاميين، بإمكانات محدودة. ورغم أن جيش العدو يقول إنه أضعف قدرات المقاومة على شنّ هجوم جديد مثل "7 أكتوبر"، وقد يكون هذا صحيحاً، لكنه أيضاً فقَدَ قوَّته التي يستطيع بها خوض مواجهة برّية واسعة على ساحة واحدة فقط، فما بالنا بساحتين، في إحداهما كابوس يسمّى حزب الله!
ما قدَّمه الفلسطينيون، رغم مرارته، ثمناً للتحرير، وقد قدّمت الجزائر مليون شهيد في معركتها، وقدّمت مصر شهداء في سبيل الاستقلال عن الاحتلال الإنكليزي، ثم الإسرائيلي، ولم ينتقد أحد وقتها تفاوت القوى، كما يروِّج بعضهم الآن، لتأليب الفلسطينيين على مقاومتهم الشريفة، ورجالها الأشداء، فالحرية غالية، والثمن غالٍ أيضاً، وقد وضع طوفان الأقصى الفلسطينيين على الخريطة مرّة أخرى، وهذا، بحدّ ذاته، نصر عظيم.