حينما يأتي الخريف

10 نوفمبر 2022

(إسحاق ليفيتان)

+ الخط -

تبدو الفصول الأربعة وكأنها مرآة حقيقية لحياة البشر منذ أن وجدوا، فتتكرّر التجارب في الحياة، لكنها تسير في خطوط مستقيمة دائماً مع خط الفصول الأربعة طوال العام، وربما لهذا وحده نقسو على فصل الخريف باعتباره المحطّة الأخيرة في رحلة الحياة! لكن رحلة الفصول مستمرّة في وتيرة واحدة، يستحيل علينا معها تحديد البدايات والنهايات فيها، وهذا ما لا يحدُث في مسيرة حياة كل منا نحن البشر. فرحلاتنا تبدأ وتنتهي، تجربة واحدة يعيشها الإنسان الواحد مرّة واحدة وحسب. ولهذا لا ينبغي أن نُخضع ترتيب فصولها ومحطاتها وفقاً لما يحدُث في فصول الطبيعة.

علينا، إذاً، أن نعيد ترتيب فصولنا الخاصة، وفقاً لتجاربنا الشخصية كل على حدة، لنعيد تقييم علاقاتنا بتلك الفصول وفقاً لما نصل إليه من نتائج. لا ينبغي أن نُخضع مشاعرنا -على سبيل المثال- لما تقترحه علينا قصص الأطفال وكتبهم الملوّنة عن فصول السنة بتلك الألوان الثابتة، فالصيف أزرق كالبحر، والربيع أخضر كالحقول، والشتاء أبيض كالثلوج، والخريف نحاسي باهت كتلك الأوراق الميتة التي تنتحر عند أقدام الأشجار، فتذروها الرياح برحلات أسىً مستمر تثير الفزع في نفوس من يراقبها غالباً من نهاية وشيطة للعمر!

أحبّ فصل الخريف، رغم أنه لا يوجد خريف واضح بتفاصيله التي نعرفها في الصور والأفلام الآتية إلينا من بلدان الفصول الأربعة. ففي بلدان الخليج لا نكاد نعيش سوى فصلين واضحين، يتميز فيهما الطقس وضوحاً شديداً ما بين البرد القارس والحر الشديد، شتاءً وصيفاً، وما سواهما سوى تهويمات متخيلة. فلا ربيع واضحاً بخضرته وأزهاره ولا خريف واضحاً بأوراق الشجر النحاسية اليابسة التي تجرفها الرياح تحت الأشجار. والطقس يبدو متشابهاً شهوراً طويلة تتوزّع على فصلين وحسب. ومع هذا، قرّرت أن أحب الخريف ربما منذ أصبحتُ أعيشه زمنياً وفقاً للتصنيف السائد.

في الخريف، تتعتق الخبرة وتتراكم التجارب، وتبدو مشاهد العمر الماضية أوضح أمامنا. الانتصارات التي طالما حلّقنا بها فرحاً تبدو في الخريف أقلّ وهجاً، حتى إنها تكتسي بذلك اللون النحاسي الباهت، وتدخل في خانة الذكريات التي تقاوم الموت بين أضابير الذاكرة والأوراق المهترئة. والأحزان كذلك، تغادر حرقتها الأولى، ويبقى منها شيء بسيط من الأسى المستمدّ من ألم الذكريات وحسب، لكنها لن تؤثر فينا حتى ونحن نستعيد خبرها الأول. فالخريف، ببرودته الهادئة ولحظات الدفء المفاجئة فيه، قادر دائماً على تغطية كل مشاعرنا بالحياد. نراقب الأشياء والذكريات والعلاقات، وحتى البشر فيها، بلا حقد ولا حب. عدالة في المشاعر تجعلنا نعيد تشكيل مسارات القلب والعقل لتتحد في إحكام واحد تحت ظلال الخريف. ولذلك، لا أعلم من أين أتت تلك السمعة السيئة لفصل الخريف في توصيفاتنا العامة باعتباره شهر النهايات، رغم ما يحتضنه من أفكار رصينة.

في الخريف وحده، نستطيع أن نمارس عواطفنا بذلك الصدق غير المشكوك فيه، وكأنه فرصةٌ لتعزيز بشريتنا في آخر المطاف، والبدء من جديد بداياتٍ تشي بالانتصارات الحقيقية في معارك الحياة كلها.

وفي الخريف وحده يبدو الانتصار حقيقياً وثابتاً ومفارقاً أنانيته الفردية، فلا صخب مدوياً ولا فرح مستعاراً ولا ضحك ينتهي ببكاء ولا حزن يمكنه أن يكسرنا ويقضي علينا، ولا فقد يمكننا أن نقتنع بأنه فقد أبدي ولا كذب في أمر. وحده الصدق سيكون الشعار الدالّ على كل ما نعيشه من مشاعر وأحاسيس.

وفي الخريف وحده، تبدو الحياة أجمل بكثير، وأكثر اتّساعاً بخياراتها وقراراتها وفرصها وعلاقاتنا فيها أيضاً. تبدو وكأنها الحياة الحقيقية وما عداها عدم.

CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.