جنرالات السودان: الهروب الكبير بعد الدّمار

02 فبراير 2024
+ الخط -

(1)

لـو أمعـنّا النظر في من حكم السودان، هذا الذي يتقاتل أهله، وهو الأول من بلدان جنوب الصحراء الأفريقية الذي نال استقلاله عام 1956، نرى أنّ نظــاميْن، أولهـما مدني وثانيهما عســكري، تبادلا إدارة البلاد بقسمةٍ ضيزى، نسبتها واحد إلى أربعة، إذ لم تتعـدّ جملة سنوات الحكم المدني 17 عاما، فيما بلغت سنوات الحكم العسكري قرابة السـتيـن. وممّا يرى الراصد فإنّ طبيعة الأنظمة المدنية تجنح نحو التعدّدية والديمقراطية، أما نظم الحكم العسكرية فجنوحها نحـو شـمولية حكم الفـرد والرأي الواحـد، ولا تطيق منّا معارضة تخالـف.

(2)

غير أنّ لأنظمة بلـدان العالم الثالث، المدني منها والعسكريّ، طبائع في الاضطــراب وفي عدم الثبات ومجافاة الاسـتقرار، فإن وُجدت أنظمة تحكُمٍ بمسحة من رشـدٍ ديمقراطي، ستـجد من يقـود أغلب أحوالها طاغـية يسـتبدّ بالحكـم سـنين عــددا، والأمثـلة في تاريخ منطــقـة الشــرق الأوســط وشمال أفريقيا كثيرٌ عدُدها لا يحصى. أمّا إنْ وجــدت أنظـمـة عســكريـة قـحّـة، فـقـد تُصادف عند من يقودها سِـعةً في الصّدر على المخالفين، وقدراً من الصبر على المحكوميـن، بما يقنعهـم أن من يحكـُم مُسـتبدٌ عادل أو طـاغـيةٌ رحـيـم. ذلك التناقـض والاضطراب سِمة غالبة في البلدان المصنّـفـة خـارج العالميـْن الأول والثانـي، فتشـيع عـنـدهـم صــفات التناقـض والتـبايـن والاختلاف.

ولك أن تستخلص من حديثنا أنْ ليس كلّ من يقـود أنظمـة مدنيــة ديمقـراطية هو ليبرالــي يتحمّل مناكفات معارضيه، وليس جائزاً أن نقول عن كلّ من يقود نظاما عسكرياً طاغية مُستبد.

(3)

لـو جئنا ننظر مليّاً في حقـبةٍ بلغتْ جملة سنواتها نحو عشرين عاما، حكم فيها الســــودان سـياسيون مدنيون، ثم ننظر في سنوات حقبة امتدّت نحو ستين عاما تسيّد فيها العسكريون حكم الســودان، سـيتّضح جلـيـاً أنّ فشل الأنظـمة السياسية المدنية يُعزى إجمالاً إلى فشـل قـياداتها المدنية في إدارة البلاد، مثلما يُعزى لتعقيدات تتّصل بالأنظـمة التعليمية والتربوية وضعـف الوعي السياسي عموماً. أمّا المؤسّسة العسكرية التي وثبتْ لتُمسك بزمام السلطة في السودان ثـلاث فترات متباعدة بعد فشل الأنظمة المدنية، فقد طالت فترات حكمها الشمولي بما نسـبته 80% من جمــلـة ســنوات عمر السودان المستقل. للوهلة الأولى، يكون التفسير منصبّاً على نسبة القـهـر أسلوباً متبعاً عـند أيٍّ من النظامين، المدني قصير الأجل والعسكري طويل الأجل.

لا يُنكر السودانيون منجزات نظام البشير، وأهمها استخراج النفط ومشروعات عديدة في البنى التحتية، ولكن من العسير عليهم غـفـران فساد نظامه وتنكيله بمعارضي نظامــه

وللمفارقة، تصاعدت طفـرات البناء والتنمية الاقتصادية إلى درجاتٍ عالية خلال حقـب الحكم العسكري، بما لا يقارن بالذي أنجـز خلال حقـب الحكم المدني. لكأنّ انشــغال السياسـيين بالتنافس في إدارة البلاد تحت أنظمة ديمقراطية يضعف قدراتهم في التركيز على إنجاز التنمية والبناء. أما الأنظمة الشمولية، في المقابل، وهي التي يغيب فـيها الانشـغال بالتنافــس السياسي، إذ قوى المعارضة مغيّبة، فإنّ التركيز الأكبر يكون منصبّاً على التنمية والبـناء، وإن اقــترن باحتــكـار الســيطرة على الـبـــلاد واعتـماد القهـر في تسيير دواليب الحكـم. لذا قد نجــد أن الإيجابيات التي تحقّقها أنظمة الحكم المدني في السودان لا تكاد تُرى، فـيـمـا السلبيات بائنـة للعيان. من ناحية أخرى، نرى أن إيجابيات الأنظمـة الشمولية، خصوصاً في مجـالات التنـمـية وبقية النشاطات الاقتصادية، قـد فاقـت سلبيات القهـر والسيطرة بدرجات عالية.

(4)

أحدّثك أولا عن حقبة الحكم العسكري الشمولي الأوّل في السودان الذي دام ستّ سـنوات تولّى فيها الفريق إبراهيم عبّود قيادة البلاد من عام 1958 إلى 1964. ... لقد توسّعت المشروعات الزراعية والصناعية في السودان في تلـكم السنوات، وكســبت البلاد منافع معتبرة عبر علاقات خارجية واسـعة ونشطة. شارك السودان، في عهد عبّود، في تأسيس منظمّة الوحـدة الأفريقية عام 1963، والتي صار اسـمها الاتحــاد الأفريقي. يحفظ التاريخ للسودان أنه من أوائل الدول الأفريقية التي اعترفت بجمهورية الصين الشعبية، وتبعتها دول أفريقية عديدة، إذ كان للسودان احترام وتقدير بحكم ما له من أفضال على دول أفريقية عديدة اسـتقلت بعـده، إذ كان من أول المنادين بمناهضة الاسـتعـمار الكولونيالي في القارة الأفريقية. لعلّ من المعلومات الغائبة عن كثيرين أنّ اسم سفير السودان في الأمم المتحدة كان متداولاً بين الأسماء المرشحة لخلافة داغ همرشولد الذي اغتيل في أحــراج الكونغو عام 1961، ولولا مواقف السودان المناهضة للسياسات الأميركية، خصوصا في الكونغو، لما تراجع اسم ذلك السفير عن الترشح بسبب يتصل بعدائه للمواقف الأميركية داخل الأمم المتحدة، وإلا لكان ذلك السفير السوداني أول أفريقي يتولى منصب الأمين العام للمنظمة الأممية، قبل أن ينالها كوفي عـنان بعـد أكثر من 20 عاما.

تصاعدت طفـرات البناء والتنمية الاقتصادية إلى درجاتٍ عالية خلال حقـب الحكم العسكري، بما لا يقارن بالذي أنجـز خلال حقـب الحكم المدني

(5)

لأسباب في معظمها داخلية، قامت ثورة على نظــام الفريق عبّود وأســـقط نظـامـه في ثورة شعبية عام 1964، وتولى المدنيون في السودان الحكم بعده. خرج من الحكم واستقلّ ســيارته مواطناً عـادياً إلى منزله الذي لم يكتمل بنـاؤه في الخرطوم. لم يكن له بعدما فارق رئاسة الدولة غير مطلبٍ شخصي وحيد، أن لا يُحرم نجله الذي يدرس الهندســة في إحدى جامعات لنــدن من السّـكنى في داخلـيات بيـت الســودان الذي تملكه الســـفارة هـناك. بـعـد أقـل من شهرين، خرج الرّجل بســيارته الصغيرة وبتواضعه الذي عرف عنه، ليتبضّع في سـوق الخرطــوم، فـيـفـاجأ بجـمهـور من المواطنـيـن تجمّعوا حوله، كادوا أن يحملوه على الأعناق وهم يهتفـون بحياته. وبعيداً عن سياسة نظامه الاستبدادي، كان الرّجل، على المستوى الشخصي، وحتى ساعة خروجه من القصــر الرئاسي، عفيفا نزيها متواضعا ذا خلق، لم يمدّ يده إلى مال الدولة الـعـام، رحمه الله.

(6)

ثم أحدّثك ثانياً عن طرفٍ آخر من حقبة الحكم العسكري الثاني التي تولى فيها حكم السودان الجنرال جعفر نميري 16 عاماً (1969 - 1985). ... بعد سـقوط نظامه إثر انتفاضة شعبية، قضى بعض سـنوات منـفـاه في القاهـرة، في مـبـنى متواضع خصّصه له الرئيس المصري السابق حسني مبارك. حين قرّر العودة الى السودان جاء إلى مدينة أم درمان ليقيم هـو وزوجته في منزل والده. لم يمتلك منزلاً، لأن لجنـة الإسكان القومية رأت أنه لم يحصل على الدرجات التي تؤهله ليُمنح قطعة أرض يبني عليها منزله، وأن لوائح اللجنة لا تبرّر تفضيله هو أو زوجته على من يملك أسـرة وذرية، وهو لا يملــك، حتى وإن كان رئيـسا للبلاد. مات جعفر محمد نميري وخرج النعش من بيت أسرته، وسُتر جثمانه في مقابر عامة السودانيين، ومضى عن الدنيا، لا بنين ولا مال ولا بيت.

(7)

أما الجنرال الثالث الذي حكم السودان 30 عاما (1989 – 2019)، فـقـد احتجز بعد سقوطه هــو وبعض مساعديه، وقُدّموا لمحاكمات علنية، لكنها كانت، ويا للأســف، عرضة لتسويف ومماطلات من جنرالات شاركوا في إسـقاط نظامه، لكنهم لم ينســوا أفضــاله عليهم، فخذلوا الثورة التي أسقطته، فكافأوه بتلك المماطلة وذلك التسـويف. لا يُنكر السودانيون منجزات نظام البشير، وأهمها استخراج النفط ومشروعات عديدة في البنى التحتية، ولكن من العسير عليهم غـفـران فساد نظامه وتنكيله بمعارضي نظامــه والذي أوصل السودان إلى عزلة دولية جعلت منه عنز المجتمع الدولي الأجرب. ما لحق بالسودان من أذىً لم تتعرّض له دولة يحترمها المجتمع الدولي.

لا يعدو القتال الشرس الجاري في السودان أن تكون من ورائه مطامع شخصية، ومكاســب ضيّـقـة تُجـنى، وعمـلات أجنـبـية يجري تهريبها تغطية لهروبٍ كبيـر من جثة وطنٍ أجهزوا عليه

وبعيداً عن كلّ تفاصيل إجراءات المحاكم المحلية في السودان، أو المحاكـم الدوليـة التي طالبت بمحاكمته لديها لاعترافه بإبادة جماعية في بلاده، فليس من سمعة شائنة تقال بحقـه أكثر من واقعة مخجلة تتصل بفضيحة ملايين العملات الأجنبية التي ضُبطت في حقيبة في غـرفة نومـه. تكفي برمـزيتها وحدها للاســتدلال على مفاســد 30 عاماً قضـاها الرّجل وأزلامه في حكم السودان. التغيير الحضاري الذي رفعوا راياته في السودان كان محضَ تغييـر في أحوالهم الدنيـوية، واكتنازاً للذهب والفضة وبنـاءً لعمـائر شُـيّدتْ، وتبعّـلاً بنسـاءٍ مثـنى وثـلاث ورباع، وكله من ريع بيع نـفــط البلاد ومواردها جميعها، ثم ألقـوا لأهلها بالفـتات من بعد.

(8)

أما جنرالات السودان الذين تسيّدوا المشهد الحالي، فها هم يديرون حـرباً في ما بينهـم، وكأنما يطمع اثنان كبيران منهما لينال أحدهـما الجائـزة الكبرى عبر التنافــس الآثـم بالقضاء على السودان البلـد، وتدمير بناه التحتـيـة ومقـوّمات دولته وهياكله، والعمل ليـلاً ونهــاراً على هلاك سـكانه عن بكرة آبائهم.

يثير الأسى، كما يثير الأسف، ما نسمع من هنا وهناك، ليكشف أمر القتال الشرس، فلا يعـدو أن تكون من ورائه مطامع شخصية، ومكاســب ضيّـقـة تُجـنى، وعمـلات أجنـبـية يجري تهريبها تغطية لهروبٍ كبيـر من جثة وطنٍ أجهزوا عليه. واهـمٌ من ظنّهم ساعين من أجل السيطرة على البـلاد وإدارتها برشد. كـلا، بل هُم تاركو أرضـها بكامـلــها نهـبـاً لغــرباءٍ طامعـيـن فـي تشـظّيها وانفراط عقـدها، ولسـرّاقين متربّصيـن من وراء الحــدود، جـاؤوا بأظـلافٍ ومخـالب لنهـش مواردهـا، فلا اعتبار لأخــوّةٍ صـارت وَهـمَاً وخرافـة، ولا لتعـاون لا بِـرّ فـيـه ولا تقـوى، إنْ هُـم إلّا آثمون والغـون في سَــلخ ذبيحــةٍ عـيـناهـا مفـتـوحتان. ... هم جنرالات يتأهبون للهروب الكبيـر، أما جنرالات السودان السـابقين الذيـن حكموا بأنظمة شمولية لم تسلم من السلبيات، غير أنهم وقد صاروا في ذمّـة التاريخ، لم يلحقـوا أذىً يدمر البلاد، ولا تركوها عنزاً أجرب يتحاشى التعامل معه المجتمع الدولي، ولا سرقوا مواردها وثرواتها، فأين نزاهة جنرالات الأمس من جنرالات اليوم الذين فيهم من يعدّ عدته للفرار منها بعـدما دمّروها. ... يدعو السودانيون اليوم بالرحمة لجنرالات الأمس ويكيلون اللعنات لمن جاؤوا بعـدهم.