جمع التبرّعات للخروج الآمن عبر معبر رفح
مع مرور أكثر من مائة يوم على العدوان الإسرائيلي الوحشي على قطاع غزّة، وسط التدهور المريع لظروف الحياة في القطاع، تكرّر في الآونة الأخيرة إطلاق نداءات استغاثة وشهادات مفصّلة صادمة أطلقها مدنيون من القطاع، أو أفراد من عائلاتهم خارج فلسطين في سياق حملات جمع تبرّعات مالية من خلال مواقع على الإنترنت شهيرة، لتأمين مبالغ مالية باهظة لكي تسدّد لشركات خاصة تقع بين غزّة ومصر، وسماسرة أفراد لتسهيل دخولهم إلى الأراضي المصرية عبر معبر رفح. واحدة من هذه الشركات المعروفة مملوكة لرجل أعمال مصري معروف وقريب من السلطات المصرية. وقد أكّد تحقيق نشرته أخيرا صحيفة الغارديان البريطانية الوجود النشط لشبكات من السماسرة تتلقّى أموالا لتسهيل مغادرة الفلسطينيين من القطاع الذين لديهم القدرة على توفير المبالغ المالية المطلوبة، والتي وصلت إلى عشرة آلاف دولار للفرد الواحد، حسب طلب استغاثة منشور على موقع شهير لجمع التبرّعات، طبقاً للصحيفة. وطالب بيان مشترك صادر منذ أيام عن تحالف من منظمّات حقوقية مصرية السلطات المصرية بفتح تحقيق رسمي عن الشهادات التي وثقتها هذه المنظمّات لعائلات جرحى ومصابين ومرضى فلسطينيين بشأن طلب مبالغ كبيرة من وسطاء للسماح بالعبور إلى مصر.
يعدّ ملف التحكّم في الدخول والمغادرة عبر معبر رفح من القضايا الغامضة منذ بدء العدوان الإسرائيلي. نظرياً، يتم التحكّم في هذا المعبر بشكلٍ مشترك من الجانبين المصري والفلسطيني منذ أقدم الاحتلال الإسرائيلي على ما عرف بخطّة فض الارتباط الأحادية عام 2005. وقد شهد التعاون بين الطرفين المصري والفلسطيني فترات طويلة من التوتّر بعد سيطرة حركة حماس على السلطة في قطاع غزّة عام 2007. لكنّ تعاونا طبيعيا كان في أوقات أخرى كثيرة بين الجانبين، لتسهيل حركة سكّان القطاع ومرور البضائع. وكان تدخّل إسرائيل في النشاط عبر المعبر أمراً واقعاً وفعلياً طوال الوقت من خلال التنسيق الأمني مع الجانب المصري، فضلاً عن استمرار إسرائيل قوة احتلال للأراضي الفلسطينية تسيطر على القطاع برا وبحرا وجوّا. تدخّلت إسرائيل بشكل أكثر فجاجة في نشاط المعبر منذ بداية عدوانها على قطاع غزّة عبر القصف المتتالي لنقاط حدودية تقع مباشرة أمام البوابة المصرية من جهة فلسطين، والتهديد الصريح المباشر بقصف شاحنات المساعدات الإنسانية. تريد إسرائيل أن تكون لها السيطرة على تدفق المساعدات وحركة الأفراد على القطاع من خلال معبر رفح. وقد حققت ذلك بالفعل بالتهديد بالقوة، أو من خلال التنسيق الأمني مع الجانب المصري. وقد تردّدت الحكومة المصرية في توجيه تحدٍّ مباشر للطرف الإسرائيلي وفتح المعبر من جانبها لإدخال المساعدات من دون موافقة سلطات الاحتلال.
تردّدت الحكومة المصرية في توجيه تحدٍّ مباشر للطرف الإسرائيلي وفتح المعبر من جانبها لإدخال المساعدات من دون موافقة سلطات الاحتلال
وبالنسبة لحركة الأفراد عبر المعبر ساعد التدخّل الدولي والقطري في تأمين خروج بعض الأفراد والعائلات من غزّة، خصوصا من الذين يحملون جنسياتٍ أجنبية أو مزدوجة. وقد أعدّت في هذا السياق قوائم تم تمريرها إلى الجانب المصري، والتي كانت تُرسل، حسب ما هو منشور في وسائل إعلام أجنبية، إلى الجانب الإسرائيلي للموافقة على هذه القوائم. أدّت هذه الإجراءات إلي تزاحم قوائم الانتظار على الجانب الفلسطيني من المعبر في انتظار المرور إلى مصر. وقد أعطت الدول الغربية أولوية لحملة جنسياتها أو المقيمين بشكل دائم على أراضيها لإدراجهم في قوائم المغادرة التي تسلّم للسلطات المصرية. ولكن لا توجد أي آلية إنسانية واضحة للمساعدة في إخلاء مدنيين فلسطينيين سواء من المصابين أو من أصحاب الحالات الإنسانية الخاصة، أو من النشطاء والمدافعين عن حقوق الإنسان الذين جرى استهداف بعضهم في قطاع غزّة خلال الأسابيع الماضية. ومع طول أمد العدوان، والمصاعب والتهديدات الوجودية التي يواجهها المدنيون في القطاع، والتي تركت كثيرين منهم في أمسّ الحاجة لمغادرة القطاع، بدأت شبكات الاستغلال تنشط في المنطقة الحدودية الواقعة بين غزّة ومصر. ويستحيل منطقياً في مثل هذه المنطقة الحدودية الحسّاسة أمنياً أن تنشط فيها مثل هذه الأعمال غير القانونية من دون تسهيل من وسطاء من الجانب الرسمي المصري. وقد كان أوْلى بالنسبة الحكومة المصرية إذا كانت لديها القدرة على توفير خروج آمن للحالات الإنسانية العالقة في غزّة من دون تنسيقٍ أمني مع الجانب الإسرائيلي أن يتم ذلك مباشرة بالتنسيق مع الهيئات الإنسانية والحقوقية المصرية والفلسطينية والدولية من دون وساطة شركات وشبكات أفراد تستغل المأساة الإنسانية لجني الثروات على حساب الضحايا وأسرهم.
عاصرتُ خلال سنوات عملي في منظمة فرونت لاين دفندرز الأيرلندية، والمعنية بتقديم الدعم والمساعدة للمدافعين عن حقوق الإنسان في المناطق الخطرة، مئات من القصص الإنسانية لأشخاص محاصرين في مناطق الصراعات المسلحة في منطقتنا العربية، ويحاولون بكل السبل المغادرة إلى مكان آخر آمن يضمن الحد الأدنى من الأمان الشخصي لهم ولعائلاتهم. يتحوّل الأشخاص في أوقات النزاع المسلح، وسيادة أنماط مكثفة من الجرائم البشعة، إلى مجرّد أرقام يومية تتناقلها وسائل الإعلام، وتغيب القصص الفردية والتجارب الإنسانية لهؤلاء الأفراد وكفاحهم من أجل البقاء. يهتم المجتمع الدولي والمراقبون بالصورة الكلية السياسية والأمنية للأحداث والأزمات، وبالإحصائيات الكلية للضحايا وسط تطبّع تدريجي تجاه الموت والدمار يصيب الرأي العام المتابع لهذه الأزمات مع طول أمد الحرب والعمليات العسكرية، وما ينتج عنها من كوارث إنسانية. ووسط تنصّل دول الجوار من مسؤولياتها تجاههم، وفقر الآليات الدولية المتاحة للمساعدة في مثل هذه الحالات، عادة ما كان يجد الأشخاص المحاصرون تحت القصف، في دول مثل سورية واليمن وليبيا والسودان، أنفسهم أمام حلّ وحيدٍ يتمثّل في التعامل مع شبكات الاستغلال والتهريب التي تتقاضى مبالغ باهظة مقابل توفير مخرجٍ آمن عبر الحدود، والذي يتم عادة بالتنسيق مع أفرادٍ من الأجهزة الأمنية للدول المجاورة. من المؤسف أن يتكرّر هذا الوضع حاليا في قطاع غزّة وبصورة أكثر مأساوية، بالنظر إلى طبيعة قطاع غزّة المحاصر من كل جانب، والفشل المنهجي للمجتمع الدولي في التعامل المسؤول مع الوضع الإنساني الكارثي في القطاع.