تحديات تأخذنا إلى نظام عالمي جديد
(1)
لعلّ النظر الثاقب لمجريات الأمور السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وعلــى المستوى الكوني، سيحيلنا حتماً إلى إدراك ما هـو مفضٍ إلى تحوّلاتٍ كبرى ستلحق بالمجتمعات البشرية في سنوات العقد الثالث من الألفية الثالثة التي نعيشها. هي تحوّلاتٌ قادمة لا محالة، وتكاد خطورة تداعياتها أن تتجاوز ما أحدثته غضبات الطبيعة من زلازل وفيضانات. على المستوى الاجتماعي، وفي أقرب مثال، عرفت البشرية الطواعيـن ومثيلاتـها من الأوبئــة الفتّاكة، لكنها لم تشهد جائحة استشرت بتسارع غير مسبوق على مستوى العالم، مثل جائحة كورونا التي أهلكت ما يقارب 15 مليوناً من البشر. وبرغم ذلـك، شكّلت اختبارا لمقـدّرات منظمة الصحة العالمية في التعــرّف على مســـبّباتها بصورة قطعية. وفيما يطوي العالم السنة الثالثة مودّعاً تلك الجائحة، نجد أطرافاً في المجتـمع السياسي الدولــي تتبــادل الاتهامــات حتى الساعة، عمّن تسبّب فيها، بما يؤكّد عجز المنظومة العالمية التي تقع عليها مسؤوليات الحماية من الأوبئة. يتعثر أداء منظمة الصحة العالمية، وهي عرضةٌ لتجاذبٍ بين كـبار العالم بشأن من صنع تلك الجائحة: يـد الطبيعة أم يد البشر؟
(2)
على المستوى الاقتصادي الدولي، ثمّة تحدّياتٌ استجدّت على أنظمة "بريتون وودز" التي أنشأها المجتمع الاقتصادي والمالي الدولي منذ نهايات الحرب العالميــة الثانيـــة، لتلافـي أي انهياراتٍ مستقبليةٍ في مجالات التعاون المالي والاقتصادي على مستوى العالم. تتعثر جهـــود تلك الأنظمـة التقليدية في معالجة مشكلات الديون بين فقـراء العــالم وأغنيائه، كما يشكّل التحوّل الرّقمي تحدّيات متجدّدة، تستوجب مواءمة مطلوبة للاقتصاديات التقليدية مع الواقع الرّقمي المُحدث، وتمثل العملات الافتراضية منه حالة واحدة، ما زالت تشهد ارتباكاً لافتاً، ولم تتحد الرؤى حول ضرورة تحديث تلك الأنظمة المالية الدولية التي صاغها أقوياء المجتمع الدولي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وباتت مراجعتها ضرورة ماثلة، إزاء تحدّيات بالغة الخطورة، مثل تحدّي التنمية المستدامة لمجتمعاتٍ نالت حرّيتها واستقلالها بعد انحسار ظاهرة الاستعمار الكولونيالي، ومثل تحدّي الانفجار السكاني وبقية القضايا العالمية، مثل سباق التسلح النووي وتغيّرات المناخ والبيئة وسواها.
(3)
على المستوى السياسي في الساحة الدولية، حــدّث ولا حرج. لا نحتاج لتفصيل التحدّيات، وقد أرهقت الصراعات التي اجتاحت بقاع العالم ما عجزت معه الترتيبات التي توافق عليها المجتمع الدولي على احتواء تبعاتها. ما زال المجتمع الدولي ممسكا بميثاق للأمم المتحدة الذي صاغته البشرية منذ عام 1945، وأقعدت بجهوده الــدول الكبرى بأنانيةٍ حجبت جدّية المساعي لمراجعة موادّه، إلا عبر اتفاقيات تكميلية ابتدعــتـهـا بعض الحكومات لسدِّ ثغراته. وأكثر من ذلك، لا يرى المتابع للنظام الدولي المـاثل سعياً جادّاً يلغي مسبّبات تلك الصراعات والحروب من جذورها. لم تفلح صلاحيات ذلك الميثاق، بقدرٍ ناجع في تحقيق الأمن والسلم الدوليين، ولعلّ الجروح الجسـيمة، كما عند الأطــــــباء، لا تعالج بالطب الناعم، بل بالتعديل أوالتقويم أو التبديل أو البتـر.
التجريب والتنظيم الذي أنتجه المجتمع المدني (لا الرسمي) سرعان ما قاد الاحتذاء به إلى ممارساتٍ ســـلبية لم تكن في حسبان اللاعبين في الساحة الدولية، كبارهم وصغارهم
أما دوائر تلك الصراعات والخلافات المستشرية على المستوى الكوني، فإنها لا تتّسع إلا بأسبابٍ تتصل بتزايد أطماع أطرافٍ في المجتمع الدولي، تتنافس لامتلاك موارد طبيعية آخذة في النضوب، أو تتجاسَر على مناطق نفوذٍ يحمي أطرافها. ذلك ما فتح الأبواب لجنوح أطرافٍ في الساحة الدولية، عملت على تجاوز مبادئ المجتمع الدولي ومقرّراته وتوافقاته، بل أيضاً لتجاهلها المتعمّد المبادئ الأخلاقية التي ينبغي أن تتوفّـر لحفظ الكيان البشري، وتأمين سلامة مجتمعاته.
لعلّ أوضح مثل لذلـك القتال الشرس بـيــن روسيا وأوكرانيا، تدفع أثمانه مجموعات بشرية هنا وهناك، ويتصاعد رويداً ليمهّد جنونية عالميــة ثالثــة.
(4)
شهد العالم في العقود الوسيطة من القرن العشرين نموا في تنظيمات مدنية بعيدة عن الحكومات، سعت إلى إكمال نواقص التوجّـهات الرسمية للدول، في مجـــالات حيوية للتعــاون الدولي. لقد زاد الوعي بقضايا دولية برزتْ أهميتها لمساسها المباشر بمصير بقاء الإنسان، مثل قضايا البيئة والمناخ والطاقة، وإن تحقق ذلك الجهد المدني وغير الرسمي في نجاحاتٍ تُذكر، وشكّل بذلك أنموذجاً إيجابياً جديدا مباركاً، إلا أن ذلك التجريب والتنظيم الذي أنتجه المجتمع المدني (لا الرسمي) سرعان ما قاد الاحتذاء به إلى ممارساتٍ ســـلبية لم تكن في حسبان اللاعبين في الساحة الدولية، كبارهم وصغارهم.
ولئن كان واقع ضمور الموارد الطبيعية وتناقصها دافعا لتعزيز تعاون دولي لازم، إلا أنه لم يَخلُ من تنافسٍ لا يلتزم بتلك المبادئ. صارت بعض أطـراف في المجتمـع الدولــي تجنـح إلى استغلال واقع المجتمعات المدنية فيها، لتنشئ جيوشـاَ وتكوينات من مجنّدين، لا تتبـع في الظاهر للكيانات العسكرية والأمنية الرسمية في الدولة، لكنها في الخفاء تأتمر بقراراتها. لعلّ أصدق مثال واضح للعيان ما تمثله منظمة "فاغنــر" التي نشأت في روســـيا بعيداً عن الدولة الرسمية، وتمدّدت فصارت لها أصابع وأنشطة أجنبية.
(5)
إذا كان الاستعمار الكولونيالي من صنائع دولٍ ذات سطوة منذ سنوات القرنين التاسـع عشر والعشرين، إلا أنّ القضاء على هذه الظاهرة استغرق زمناً طويلا من نضال لشعوبٍ مظلومة، ما انتهت تلكم المظلوميات التاريخية إلا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945. إذ ما أن وضعت الحربُ أوزارها، حتى أقرَّ زعماء العالم وقتذاك مواثيق دولية، أهمها ميثاق الأمـم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان بعده. لو كان الاستعمار الكولونيالي أنشأته حكومات وامبراطوريات لم تغب عنها الشمس، إلا أن هذه المواثيق المشار إليـها قد غيّبت الشمس فعلـياً عن تلك الكيانات الكولونيالية الظالمة، فنالت معظـم المستعمرات القديمة، خصوصا في أفريقيا وآسـيا والأوقيانوس وأميركا اللاتينية اسـتقلالها، وطوى العــالم صفحـة ذلك النوع من الاستعمار البغيض.
لا يرى المتابع للنظام الدولي الماثل سعياً جاداً يلغي مسببات الصراعات والحروب من جذورها
غير أن صفحات الإستعمار الكولونيالي، فيما يبدو، لم تطوَ طياً نهائياً. لقد فضح الإعلام العالمي ورصد ما تقوم به منظمات عسكرية شبه مدنية، تدّعي اســـتقلالها عن حكــومــاتها رســميا، لكنها تنشط في الخـفاء لخدمـة مطامع حكومات رســـمية، خرجت هذه التنظيــمات العسكرية شبه المدنية من عـباءتها. ذلـك نوع مُحدثٌ من الخـداع الاستعماري يعيد الحيـــاة لممارســـات استعمارية، قبرتْ منذ أواسط سنوات القرن العشرين. ذلك ما تـم رصـــده فـــي تقارير الإعلام العالمي من أنشطة تقوم بها منظمـة فاغنـر، الروســية فـيما وراء البحــــــار مجازاً. لا تطلق جهات إعلامية عديدة تعبير "مرتزقة" على مثل هذه التنظيـــمــات شبه العسكرية وتغوّلاتها في أنحاء القــارّة الأفريقية. ومثلها ولا تختلــف عـنها قـــوات الدعـــم السريع السودانية التي تقاتل في اليمـــن، عن قوات "فاغنر" هذه، بل تشكّل كلاهما جماعات عسكرية مقاتلـة، تخرُج للعمل بأذوناتٍ من حكومات رسمية، وإن ادّعت استقلالها عنها.
(6)
تشكّل الإشــارات أعلاه في الساحة الدوليــة، والعالم ماضٍ في سنوات ألفيته الثالـثـة، في جوهرها تنبيهات بالغـة القـوّة، وتحذيرات عالية الصدى، لا بدّ من أن تصل إلــى أسماع المجتمع الدولي، لابتداع ما يعين على تجـــاوز كلّ هذه الســـلبيات المــاثلة، ويبتكـر من الترتيبات الجــديدة التي يحمـي الوجـــود البشـري، فلا يتهــدّده الفناء بأيــدي أبنائـه. تنبّه إشــارات الخطــر إلـى ضـرورة الالتفات لمراجعــة المـــواثيـق الدوليـة في المجالات كافة: السياســية والاجتماعـــية والاقتصادية والثقافيـة، بما يعيــن على احتـــواء نـزعــات التنافــس الظالــم بين أقــوياء العـالم وضعفائه، والقضـــــاء المبرم على محاولات الاستعمار الكولونيالي الجـــديد الذي برز بلبوس مستحدَث للسيطرة على مــوارد وثرواتٍ بشرية وطبيعية، هي ملك للمجتمعات البشرية كافة، وليست وقفاً على فئةٍ قليلةٍ من كبار المجتمع الدولي.
إنْ كانت مهدّدات بقاء المجتمع البشري متماسكاً هي من صنع أيدينا في الأغلب، علينا أن نبتدع من الأساليب والمواثيق والمبادئ ما يمكننا، وعبر صياغاتٍ محكمة، مـــن صيانة موجبات بقائـه آمنـاً في السياسة والاقتصاد والاجتماع ... إننا على مشارف نظام عالمي جديد.