بيروت ومقديشو... ما أشبه الليلة بالبارحة
ربما هي مفارقة في المقارنة والمقاربة بين عاصمتين عربيتين يفصلهما بعد جغرافي شاسع، وتقعان في أهم المناطق حيوية واستراتيجية في قارتين متجاورتين، لكن المدينتين تتشابهان في مناحٍ كثيرة. ولعل التفجير المدمر الذي هزّ قلب بيروت النابض ورئتها الاقتصادية في 4 أغسطس/ آب الحالي يذكّر الصوماليين بتفجير 14 أكتوبر/ تشرين الأول عام 2017، في مقديشو، والذي خلّف نحو 1500 قتيل وجريح، وعشرات المفقودين، فضلاً عن دمار هائل أصاب البنية التحتية، وحوّل مرافق حساسة وفنادق ومطاعم شعبية إلى كومة من الرماد، أما زلزال بيروت فأشد إيلاماً، إذ اعتبر ثاني أضخم تفجير شهده العالم بعد تفجير القنبلة النووية في هيروشيما اليابانية في أغسطس/ آب 1945، والوضع في لبنان لن يبقى على حاله، كما كان قبل الانفجار في بيروت.
التفجيرات الانتحارية وبسيارات مفخخة باتت خبز الصوماليين ورنين موسيقى موت يستفيق عليه الصوماليون صباح مساء، جديدها التفجير الذي استهدف مساء الأحد الماضي (16/8/2020) فندقاً مطلاً على ساحل ليدو، يرتاده مسؤولون كبار ونواب في البرلمان، وأودى بعشرات من المدنيين، وأصيب نحو 30 آخرين بجروح. أما الشقيق اللبناني فيدفع ثمناً باهظاً نتيجة سياسات داخلية متضاربة وبين قوى متصارعة في الهرم السياسي، فتفجير مرفأ بيروت جاء في ذروة اشتعال توترات لبنانية وإسرائيلية، جديدها عند تخوم مزارع شبعا.
المعضلة الراهنة التي تقف حجر عثرة أمام نهضة بيروت ومقديشو تكمن في النظام السياسي الفاسد
تاريخياً، اكتوت المدينتان بنار الحرب الأهلية والصراعات الطاحنة بين الأشقاء، فالحرب الأهلية اللبنانية أعادت إلى الأذهان صور ضحايا الموت على أنقاض الدمار وركام المباني، أما مقديشو التي لا تفارقها فجائع الموت، فلا تزال ذاكرة الصوماليين مليئة بما مرّت به عاصمة بلدهم بأحداث أليمة، وهي التي كانت عنقاء شرق أفريقيا لتتحول إلى مدينة أشباح تسكنها المليشيات المسلحة والكلاب الشاردة. غياب ضمان لتوافق سياسي لحل الأزمات السياسية في لبنان والصومال ظلّ يهدد بتفجر صراعات وفوضى سياسية وأمنية. والمظاهرات في بيروت هذه الأيام تعبيرٌ عن إرادة شعب ملّ من المراوغات والوعود الكاذبة لتغيير الوضع اقتصادياً وسياسياً نحو الأفضل، وفي ظل جائحة كورونا التي قصمت اقتصاد لبنان. أما في مقديشو، فغياب حلول وتفاهمات على نظام محدد للانتخابات يهدّد استقرار البلاد، ويجرّها نحو الفوضى مجدّداً.
تاريخياً، اكتوت المدينتان بنار الحرب الأهلية والصراعات الطاحنة بين الأشقاء
ليست صور الموت والدمار ما يميز المدينتين عن غيرهما، فالأوضاع الاقتصادية فيهما متردّية، نتيجة استفحال الفساد في مؤسسات النظامين في لبنان والصومال، وتربعهما في قوائم الفساد العالمية، وربما يحتاج الوضع الاقتصادي اللبناني إلى ما لا يقل عن خمسة مليارات دولار جرّاء انهيار مرفأ بيروت، وهذا مطلب سيكون أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى، لإنقاذ لبنان من كارثة اقتصادية ستضيفه إلى قائمة دول عربية تعاني من مجاعاتٍ وأزماتٍ سياسية طاحنة. أما الوضع الاقتصادي في مقديشو فهو هشّ، ولا يستدعي شفقة من الأشقاء العرب منذ عقدين، وهو ما يجعل حياة ثلث سكان الصومال تحت سيف الجوع تارة ورحمة الصراعات العسكرية تارة أخرى.
ما يثير الريبة والشك في الانفجارين في كل من بيروت ومقديشو أن الفاعل ما زال مجهولاً وطليقاً، فالذي شهدته مقديشو عام 2017 وصفته وكالة الأناضول بالزلزال المدمر، ولم تعلن أي جهة عن مسؤوليته، على الرغم من أن الفاعل كان معروفاً لدى الحكومة الفيدرالية، فمن يفعل غير هذا سوى حركة الشباب المرتبطة بتنظيم القاعدة، التي لم صمتت، نظراً لهول ما أحدثته من فظائع، بعد أن تحولت أجساد كثيرين إلى أشلاء محروقة ومتفحمة، عجزت الفرق الطبية عن لمّ شتاتها، ولم يعلق على المشنقة أحد بهذا الجرم، وربما فعلة فاعل أحرقت بيروت، و لم توجه أصابع الإتهام لجهة بعينها، وإن كانت إسرائيل تصدّرت في الواجهة، على الرغم من أن الفاعل وراء هذه المأساة ما زال في علم الغيب، وإذا ثبت أن الجريمة النكراء بفعل فاعل فإن المشهد في لبنان سيتخبّط أكثر.
الوضع الاقتصادي في مقديشو هشّ، ولا يستدعي شفقة من الأشقاء العرب منذ عقدين، ما يجعل حياة ثلث سكان الصومال تحت سيف الجوع تارة ورحمة الصراعات العسكرية تارة أخرى
المقاربة الأخرى بين مقديشو وبيروت أن المحاصصة السياسية التي تهيمن على النظامين مأزق آخر يعيق تقدم البلدين نحو الأمام، فالمحاصصة القبلية في الصومال، والتي على أساسها يتم توزيع ثروات البلاد والمناصب السيادية، معضلة كبرى أمام نهوض هذا البلد من قاع الفشل، وكذلك لبنان الذي يئن من وطأة صراعات سياسية، وعانى من فراغ السلطة سنوات نتيجة خلافات حول السلطة، هي عقباتٌ تحُدّ من تطور هذا البلد الجميل الذي يحتاج اليوم إلى جهد وحشد أكبر من أجل إنقاذه من حالة الضياع التي يعيش فيها، وإيجاد حلول بديلة بين الأطراف السياسية الفاعلة لعدم تكرار أحداث ومآسٍ تدمر النفوس قبل البنيان، فما فائدة العمارة إذا خربت النفوس؟
الضوء الأخير في النفق المظلم بين مقديشو وبيروت الرهان على الحوار والمفاوضات بين الأشقاء
الضوء الأخير في النفق المظلم بين مقديشو وبيروت هو الرهان على الحوار والمفاوضات بين الأشقاء، لتكون هذه اللغة مدخلاً لمرحلة مفصلية جديدة في تاريخ الدولتين. وعلى الرغم من أن تبدل المشهد ومسار الانتقال والقوة والتأثير من جهات إلى أخرى ربما يكون ثقيلاً وصعباً في آن، لكن التنازلات من أجل الوطن تأتي في مقدمة أي حوار ومصالحات جديدة، فمقديشو يتزايد الجدل فيها حول مستقبل البلاد بعد تلكؤ النظام السياسي الحالي عن تحديد موعد للانتخابات، والسعي نحو تمديد فترة حكمه. أما في بيروت، فشوارعها تفيض بالغضب ورايات المشانق، سعياً إلى تحقيق التطلعات ووعود الساسة التي لم يجف حبرها بعد، فهل ستخمد نار الصراعات في لبنان، لتغليب مصلحة الوطن والمواطن اللبناني، التواق لعيش كريم وسلام أكيد، وهل من آفق لحل سياسي في المشهد الصومالي؟
أخيراً، المعضلة الراهنة التي تقف حجر عثرة أمام نهضة بيروت ومقديشو تكمن في النظام السياسي الفاسد، ففي الطائفية والقبلية مأزق لبنان والصومال، فتغيير قواعد الحكم والإدارة أمر ضروري، على الرغم من تهديدات العودة إلى الحرب الأهلية التي يطلقها سياسيون ليس همهم سوى البقاء في هرم السلطة والتربح فوق جماجم الأبرياء والفقراء، فإذا لم يأت هذا التغيير فإن وضع البلدين سيراوح مكانه ردحاً من الزمن، من دون أن نستلهم العبر من مجازر ضحايا الحرب الأهلية ومفخخات الموت في كل من بيروت ومقديشو.