بهاء الرواية العربية
.. وكاتب كبير آخر يرحل، ليراكم كتاباتنا عن الراحلين في دفتر المراثي، ويجعلنا نتحسّس أصابع الزمن، وهي تمرّ على مكامن الروح شيئاً فشيئاً عبر الكتابة وحدها. ذلك أن الكتابة عن الراحلين ليست سوى تدريبٍ مستمرٍّ على رثاء الذات الذي لا يمكن تدوينه بالكتابة شعراً ونثراً إلا على سبيل التوقّع والتخيّل والتمنّي أحياناً.
اكتشفت عالم الكاتب بهاء طاهر، الذي رحل عن عالمنا قبل أسبوع، عبر بوابة القصة القصيرة، ورغم أنه اشتهر روائياً منذ ذاع صيت روايته الشهيرة "خالتي صفية والدير"، والتي أصدرها في مطلع تسعينيات القرن الماضي بعد ثلاث روايات صدرت في الثمانينيات، لم يكتب لها الذيوع في حين صدورها، إلا أن بهاء طاهر كاتب القصة القصيرة كان اكتشافاً مذهلاً بالنسبة لي، خصوصاً بعد أن تخلّى كثيرون من مبدعي القصة القصيرة العرب عن هذا الفن الإبداعي، انحيازاً للرواية وحدها تقريباً. ولكن بهاء بقي من المخلصين لهذا الفن الجميل، والذي وجد فيه بيئة للكتابة ذات الأبعاد الإنسانية الشاملة، وربما أجد من يتفق معي بأن كل رواياته كتبها بالنفس القصصي نفسه، لولا زيادة عدد صفحاتها أحياناً.
وبهاء المولود في عام 1935، والذي يضعه مؤرّخو الأدب من جيل الستينيات، مع أنه أصدر أول إنتاجاته الأدبية في السبعينيات، يفارق ذلك الجيل بقدرته الهائلة على التحليل العلمي الرصين، والذي استفاد منه في الكتابة خارج الذات، وبموضوعات عالمية الصبغة من دون الوقوع في شرك الاهتمام السياسي المباشر، فقد ناوش الهموم السياسية العربية الطاغية في حقب الستينيات والسبعينيات والثمانينات والتسعينيات بقصصٍ ورواياتٍ ذات نسق إنساني عالي الرهافة، كما في روايته البديعة "الحب في المنفى"، والتي يمكن اعتبارها فتحاً في روايات الهجرة والتهجير العربيين، فقد قدّم فيها رؤية متقدّمة جداً عما كتبه من سبقه من الروائيين الذين جرّبوا مواسم الهجرة إلى الشمال، أما بهاء فقد كانت هجرته إلى سويسرا، والتي قضى فيها شطراً من عمره، حيث عمّر مترجماً في هيئة الأمم المتحدة منذ عام 1981 وحتى 1995، إضافة إلى تجربته الثقافية الواعية قبل ذلك، فقد هاجر بعد أن تكوّنت تجربته الإنسانية في مجملها على عكس من هاجر قبله ليكتشف نفسه في المهجر!
وها هو يرحل بعد أن أثرى المكتبة العربية بعدد كبير من المجموعات القصصية والروايات والمسرحيات والكتب العلمية أيضاً. لكن تحوّل رواياتٍ له إلى دراما تلفزيونية قدّمه إلى المشاهد بطريقة جديدة، فعندما عرض مسلسل "خالتي صفية والدير" المأخوذ من الرواية التي تحمل الاسم ذاته تحوّل بهاء طاهر إلى ما يشبه النجم الشعبي، وهو ما ساهم في ترسيخ أفكاره الشعبية تجاه الناس بطبقاتهم كافة لدى الجميع، وساعده بعد ذلك في عمله السياسي الذي بلغ أوجه بتأسيس حركة كفاية في عام 2004 ضد نظام حسني مبارك في مصر. ومن تلك الحركة، انطلقت خطواته النضالية على الأرض، بعد أن مهد له في كتاباته، المسرحية خصوصاً، فشارك في عديد من المظاهرات التي أسّست لثورة 25 يناير (2011). وكان بهاء في ذلك كله هو بهاء الكاتب المبدع الذي لم يتخل عن شروطه الفنية العالية في سبيل تحرّكه الشعبي والنضالي على الأرض.
في روايته الجميلة "واحة الغروب" كتب بهاء الرواية العربية: "لم أفهم معنى ذلك الموت، لا أفهم معنى للموت. لكن ما دام محتماً فلنفعل شيئاً يبرر حياتنا. فلنترك بصمةً على هذه الأرض قبل أن نغادرها". ويبدو أن حياته كلها كانت تجسيداً لتلك المقولة التي أوجزت فكرته عن الحياة قبل الموت، فها هو قد رحل، بعد أن ترك الكثير مما يمكن أن يكون تبريراً لائقاً لحياته.. رحمة الله عليه.