الوصاية الهاشمية .. الأخطر قادم في القدس
على الرغم من أنّ مقالات وآراء كثيرة منشورة في الصحافة الإسرائيلية خفّفت من حدّة تصريحات رئيس الوزراء الأردني، بشر الخصاونة، في مجلس النواب (تعقيباً على اقتحام المستوطنين وقوات الاحتلال الحرم القدسي)؛ إلاّ أنّ مقالاتٍ وتصريحاتٍ وتسريباتٍ إعلامية إسرائيلية أخرى (مقصودة) استثمرت هذه التصريحات، لتوجيه رسائل حادّة تجاه الأردن.
تشير الرسائل القادمة من الجانب الإسرائيلي بوضوح إلى التغييرات الجوهرية التي طرأت على العلاقات الأردنية - الإسرائيلية، سواء ما تعلّق بالحالة العربية، بخاصة بعد موجة التطبيع والاتفاقيات الإبراهيمية، وتدفق العلاقات العلنية والسرّية بين الطرفين، أو على صعيد الانتقال إلى المرحلة الجديدة في المشروع الصهيوني في القدس (منذ إدارة ترامب).
في اجتماع الخميس الماضي في عمّان، الذي دعا إليه الأردن لمناقشة التطورات في المسجد الأقصى، لم يحضر وزراء خارجية السعودية والإمارات والجزائر. وعلى الرغم من تأكيد مسؤولين أردنيين أنّ الغياب ليس رسالة سياسية، بل مرتبط بأمور أخرى، سواء صحية (وزير الخارجية السعودي اكتشف إصابته بكورونا، والإماراتي مرتبط بموعد رسمي مسبق) إلاّ أنّ حجم الاهتمام الرسمي العربي بموضوع القدس ومركزية القضية الفلسطينية أصبح ثانوياً، وهو أمرٌ لم يعد مخفياً. ولعلّ التحوّل الأكثر خطورة يتمثّل بالموقف التركي الذي تراجع في زخمه كثيراً مقارنةً بالمرحلة السابقة، مع وجود إشارات واضحة إلى أنّ الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، أجرى استدارة غير معلنة في السياسة الخارجية في العلاقة مع السعودية والإمارات، وأخيراً إسرائيل.
بدلاً من محاولات التطمين والتهدئة من الإسرائيليين تجاه الاحتجاج الأردني، فإنّ اللغة الإسرائيلية انقلبت إلى إثارة الشكوك في الموقف الأردني
إذن، الطرف المعني الرئيس اليوم بموضوع القدس والمقدّسات، بجوار الفلسطينيين، هو الأردن، في حين يتراجع الجميع خطواتٍ إلى وراء، فإنّ تصريحات الملك ورئيس الوزراء وجولات وزير الخارجية وجهوده تؤكّد على أنّ الموقف الأردني لا يزال يحتفظ بالزخم نفسه تجاه القدس والمقدّسات، لكن الفرق أنّ الموقف الإسرائيلي تجاه الأردن هو الذي تغير. وبدلاً من محاولات التطمين والتهدئة من الإسرائيليين تجاه الاحتجاج الأردني، فإنّ اللغة الإسرائيلية انقلبت إمّا إلى إثارة الشكوك في الموقف الأردني، بادّعاء وجود قناة خلفية بين الطرفين، وما الموقف المعلن إلاّ لذرّ الرماد في العيون أو من خلال الهجوم على الأردن والتهديد المبطّن والمعلن في أحيانٍ أخرى بالكشف عن الوجه الإسرائيلي الآخر في العلاقة مع الأردن، وتذكيره بموازين القوى والتحوّلات الجارية في المنطقة وفي العالم. وتجاوز بعضهم ذلك إلى دعوة إلى قطع الغاز عن الأردن، بل وصل التلميح الإسرائيلي إلى الحالة الداخلية الأردنية والأزمات الأخيرة، أي بمعنى التلويح باستخدام الأوراق كافّة التي تُضعف الموقف الأردني والدور الحالي!
في سياق هذه المناخات، عُقدت جلسة حوارية مغلقة في معهد السياسة والمجتمع (الأسبوع الماضي) طرح موضوع العلاقات الأردنية - الإسرائيلية في ضوْء تطوّرات المشهد في المسجد الأقصى. وخلص المشاركون إلى نتيجتين رئيسيتين في قراءة المشهد: الأولى أنّ ما هو أسوأ لم يأتِ بعد، إذ إنّ المرحلة المقبلة هي تهويد القدس وتغيير الوضع في الأقصى، وهو أمر أصبح محطّ إجماع لدى القوى الإسرائيلية كافّة، مع اختلالٍ كاملٍ في موازين القوى، والسيناريو الأخطر قادم. الثانية أنّ المعطيات التي انبنت عليها العلاقة الأردنية – الإسرائيلية، أو بعبارةٍ أدق المنظور الإسرائيلي للدور الأردني ولأهمية الأردن استراتيجياً ولأفضلية الاستقرار السياسي، تغيّرت، وميزان القوى الدولية والإقليمية انهار لصالح إسرائيل، ما يعني أنّ التعامل وفق المعايير القديمة والمعادلة السابقة لم يعد مُجدياً ولا منطقياً على صعيد ترسيم الخيارات الأردنية.
مفهوم الوصاية غامض في اتفاقية السلام الإسرائيلية - الأردنية، ويقوم على كلماتٍ مثل الدور الأردني ومفاوضات الحل النهائي وحرية الوصول إلى أماكن العبادة
إذا كان السيناريو الأكثر توقعاً هو انفجار الأوضاع في القدس واستمرار سلطات الاحتلال في عملية تغيير الأوضاع، فما هي الخيارات الأردنية، وما هي أفق "الإمكان" الأردني في التعامل مع هذه التطورات، في حالة ازداد الأمر سوءاً، ولو افترضنا، مثلاً، عودة الجمهوريين بالصيغة الترامبية المتطرّفة في الانحياز لإسرائيل؟ يتحدّث تقدير موقف صدر عن معهد السياسة والمجتمع (بناءً على الورشة السابقة) عن ثلاثة خيارات أمام الأردن:
الأول ما أُطلق عليه الخيار التصعيدي، والذي قد يقود إلى توتر شديد في العلاقة بين الأردن وإسرائيل، ويحمل معه كلفة سياسية، ربما ستكون كبيرة إذا عاد الجمهوريون لاحقاً، ومحاولات إسرائيل وبعض "حلفائها الجدد" اللعب في المعادلة الداخلية الأردنية، وانعزال الأردن عن المشهد الإقليمي.
الثاني وهو نقيض الأول، التهدئة مع إسرائيل، وعدم الانجرار وراء تكبير مفهوم الوصاية ليأخذ أبعاداً سياسية تفوق قدرة الأردن على التحمّل، وبالتالي يزج الأردن في صراعٍ بغير توازن قوى. ويعلّق أحد السياسيين بالقول إنّه لم تبق إلا دول عربية محدودة لم تطبّع مع إسرائيل وتتقرّب منها، بينما كان الوضع في السابق معكوساً، فالوضع انقلب رأساً على عقب، وحتى مفهوم الوصاية، وفقاً لهذا الاتجاه، غامض في اتفاقية السلام الإسرائيلية - الأردنية، ويقوم على كلماتٍ مثل الدور الأردني ومفاوضات الحل النهائي وحرية الوصول إلى أماكن العبادة، وهي مصطلحاتٌ لا تحمل، في الظرف الراهن، أبعاداً سياسية واضحة للوصاية الهاشمية.
الثالث، وهو خيار الموازنة بين الاعتبارات الرئيسية المهمة المتمثلة بأنّ موضوع القدس والضفة الغربية عموماً لا ينفصل عن الأمن الوطني الأردني، وعن المعادلة الداخلية وعن الدور التاريخي والرمزي للإسلاميين من زاوية في مقابل التحوّل في الظروف الدولية والإقليمية بصورة جذرية، بما يخدم موازين القوى الإسرائيلية من زاوية ثانية، ما يعني أن على الأردن، وفق هذا الاتجاه، أن يزن، بصورة دقيقة وعميقة، بميزانٍ من ذهب أي خطوة يقوم بها تجاه ملف القدس والمقدّسات ويدرس الموضوع بعقل هادئ وبواقعية ما يحول دون تمادي إسرائيل في تجاهل الدور الأردني، بل والتخلّي عن التزامها تجاه الوصاية الهاشمية، وأيضاً بما يضع حدّاً لسقف توقعات الشارع الأردني من إمكانات الأردن وقدراته في موضوع الوصاية، بخاصة مع التراجع الملحوظ للدور التركي وضعف السلطة الفلسطينية وهشاشتها، وأخيراً انهيار البعد العربي - الإسلامي.
لمّا تحدّث رئيس الوزراء الخصاونة قدّم خطاباً عاطفياً، وليس سياسياً محبوكاً، ولم يؤطّر من خلاله الموقف الأردني، بل استفاد الإسرائيليون منه للهجوم على الأردن
وبعيداً عن عمليات الترجيح والتفضيل في السيناريوهات السابقة والمناظرة حولها، فإنّ من المهم الإشارة إلى نقاط كانت محلّ اتفاق بين المشاركين في الورشة:
الأمر الأول، أن موضوع القدس والمقدّسات والضفة الغربية يتجاوز مسألة الوصاية الهاشمية، في أبعادها، الرمزي والتاريخي والأدبي، إلى أنّه مسألة أمن قومي أردني في الصميم. وعليه، من الضروري أن يكون الأردن واضحاً مع الأميركيين والإسرائيليين في تعريف علاقته بما يحدث. الثاني، أنّ الأردن عادة ما يخسر عامل الوقت في إدارة الأزمات أو التعامل معها، وظهر ذلك جلياً في الساعات الأولى من الأزمة، إذ غاب الموقف الأردني بصورة جلية، لوجود الملك في العلاج في ألمانيا، وساد الصمت الموقف الحكومي في المشهد الداخلي، بالرغم من جهود ملحوظة من الساعات الأولى لوزير الخارجية، لكن لم تكن هنالك رواية أردنية رسمية موجّهة إلى الرأي العام الأردني، فظهر الأمر وكأنّ الأردن خارج السياق تماماً. الثالث، هنالك مشكلة حقيقية في توزيع الأدوار في مراكز القرار الأردني، بل ثمّة خلط خاطئ للأدوار، فمثلاً من الضروري أن يكون هنالك ترسيم متوافق عليه لمواقف الملك وخطاباته، ثم الحكومة في الشأن الداخلي، ووزير الخارجية، والمساحات المتاحة للشارع، ليقوم بأدوار مهمة لمساندة الموقف الرسمي. إلاّ أنّ ما حدث نقيض ذلك تماماً، تأخر الموقف الحكومي، ثم لمّا تحدّث رئيس الوزراء قدّم خطاباً عاطفياً، وليس سياسياً محبوكاً، ولم يؤطّر من خلاله الموقف الأردني، بل استفاد الإسرائيليون منه للهجوم على الأردن. والأسوأ من ذلك كله أنّ الحكومة تعاملت بضيق أفقٍ شديد مع حركة الشارع، فقطعت الأنوار عن المساجد بعد صلاة الفجر، إذ انطلقت دعوات إلى ما سمي الفجر العظيم للاحتجاج على ما تقوم به إسرائيل، ما شوّه الموقف الأردني وأثار الشكوك بشأنه، وهو أمرٌ يؤكّد مسؤولون أنّه كان اجتهاداً ميدانياً خاطئاً، لكن كم كان حجم كلفته على سمعة الأردن وصورته وعلاقة الدولة بالشارع؟ الأمر الرابع، هنالك تداعيات خطيرة متوقعة في المرحلة المقبلة، جرّاء عملية تهويد القدس، فالخشية كبيرة لدى الأردنيين الذين يحملون البطاقات (الهويات) المقدسية أن تسحبها إسرائيل منهم، وهو أمر، في العادة، تقابله السلطات الأردنية بسحب جوازات سفرهم الأردنية، أي أنّهم هم الضحية في الجهتين، وهي أمورٌ من المفترض التحضير لها جيداً، والدخول في اشتباك ديبلوماسي مع الإسرائيليين، وعدم انتظار النتائج الوخيمة إن وقعت.