المرور بقوة وفرض دستور الغلبة في تونس
تدلّ كل المؤشرات على أن تونس سيغدو لها الأحد المقبل دستور جديد. تونس على عتبة جمهورية ثالثة، كما يدّعي أنصار الرئيس قيس سعيّد. يجري هذا كله في مناخ من الدعاية التي خِلنا أننا قطعنا معها. ومع ذلك، تظل أسئلة عديدة معلقة لا إجابة عنها، لعل أهمها: أممكن للسلطة وأنصار سعيّد أن يختزلوا إرادة الشعب في تلك العبارة التي سيضعونها في صناديق الاقتراع "نعم أو "لا"... لم يطلع الناس على فحوى الدستور إلا بعض قليل، ومع ذلك سيذهبون إلى مكاتب الاقتراع.
لا يزال أنصار سعيّد يدافعون عن الدستور الجديد، لأنهم يعتبرون، ظلماً ووهماً، أن دستور 2014 دستور حركة النهضة، وهم الذين كانوا يقولون لها، إبّان حكمها وحدها أو مع غيرها إنهم أجبروها، أيام المجلس الوطني التأسيسي، على التخلي عن نسختها من دستورٍ كانت تعدّه، وإن المجتمع المدني والحركة السياسية العلمانية قد فرضت عليها تنازلاتٍ حادّة للوصول إلى النسخة النهائية من دستور الثورة.
في هذا الدستور الذي سيحكم التونسي غلبة وتسلطاً يتبرّأ يومياً كل الذين هللوا له سابقاً، بمن فيهم أكبر منظّريه، أستاذا القانون الدستوري، الصادق بلعيد وأمين محفوظ. وباستثناء حزبين قوميين، حركة الشعب والتيار الشعبي، وكانا في الأصل حزباً واحداً، قبل أن ينقسما، وحزب يساري آخر، حركة إلى الأمام، التي لا يعرف الناس أعضاءها، فإن القوى السياسية ظلت تقريباً مُقاطعة الاستفتاء أصلاً أو داعية إلى التصويت بـ "لا".
لا أحد تبنّى الدستور الجديد، الذي صيغ "في غرفة مظلمة"، كما يقول الرئيس، حتى بان للجميع أنه دستور سعيّد
التوضيحات التي نشرها كل من بلعيد ومحفوظ جاءت في الوقت الضائع، وربما كانت تحرص على شراء براءة، وإنْ بشكل متأخر جداً. كان الرجلان يعلمان وقد اشتغلا في "دار الإفتاء الدستوري"، تطوّعاً لا اقتناعاً، أن دستور 2014 يستحق كل هذا التنكيل إلى حد التمزيق العلني الذي قام به أنصار الرئيس، وإنما نكاية في حركة النهضة. لم يخف الرجلان حقدهما عليها، وما خصّصاه من نقد سياسي للحركة، في أثناء حضورها المكثف في وسائل الإعلام، أكثر عشرات المرات مما قدّماه من حجج ومواقف في القانون الدستوري ذاته.
تتحدّث مصادر عن مضايقاتٍ تعرّض لها الرجلان على إثر إصدارهما مواقف تنقد نسخة الرئيس من الدستور الجديد، فهما خطٌّ أحمر من السلطة، بل قد يكون الصادق بلعيد قد تجرّأ أكثر من اللزوم، حين اعتبر أن تلميذه (الرئيس) غدر به، وأنه ما كان ينتظر أن يعمَد سعيّد إلى فرض نسخته، من دون أن يبادر حتى بمجرد إعلامه.
تبرّأ بلعيد ومحفوظ لاحقاً من مشروع الدستور الذي بدا مؤسّساً لدولة الشريعة لدى بعضهم، مرسّخاً حكماً تسلطياً لدى آخرين، فيما استحوذ على "السلطات" التي يسمّيها الدستور وظائف، وهو يحول، بشكل مطلق، دون محاسبة الرئيس، على ما فعل، كذلك يمنحه "المفتاح السحري" عند الاقتضاء، حينما مكّنه من إعلان الخطر الداهم، متى ارتأى ذلك، ومن دون أي ضابط، فيما همّش المحكمة الدستورية، وجعلها بلا روح.
لا أحد تبنّى الدستور الجديد، الذي صيغ "في غرفة مظلمة"، كما يقول الرئيس، حتى بان للجميع أنه دستور سعيّد. ها هو يقدّم في الدستور هذا سردية خاصة به، يتوهم أنها ستخلّده في التاريخ بطلاً قومياً، قام بحركة تصحيح وطني أنقذ البلاد. نعرف تماماً نهاية هذه السرديات السريعة، حتى وإن بدا زمن الانقلاب كئيباً طويلاً.
يحكم سعيّد بدستوره مستغلاً ضعف المعارضة، وموت السياسة التدريجي، لأن ما يحدّد هذه حالياً ليس الفكر ولا المبادئ، ولا حتى المصالح، بل المشاعر والأحقاد
السرعة غير محدودة في هذه الطريق التي فتحها الرئيس قيس سعيّد، ولا نجد أي بوابة يدفع فيها مستعملوها الرسوم، غير أن تونس ستدفع في آخر البوابة البعيدة جداً ثمناً باهظاً. يحكم سعيّد بدستوره مستغلاً ضعف المعارضة، وموت السياسة التدريجي، لأن ما يحدّد هذه حالياً ليس الفكر ولا المبادئ، ولا حتى المصالح، بل المشاعر والأحقاد التي وصلت إلى حد غرائز الكراهية والضغينة والشماتة. ما يحرّك المشهد السيسي الحالي هو المشاعر الأكثر بدائية، إنها سياسية الأهواء التي تعصف بهذه البلاد.
كانت تونس، إلى وقت قريب، ورشة يجري فيها تجريب قدرة النخب على بناء حالة فريدة، تضع حداً لمقولة الاستعصاء الديمقراطي، حيث يظل الإسلام قادراً على التكيف مع الديموقراطية. ثار العلمانيون لأن حزباً إسلامياً ما حكم، ألزموه بعدم ذكر الشريعة، أو حتى مقاصد الإسلام، فها هو رئيس شعبوي محافظ يدفعهم إلى حافّة دستور الشريعة. ومع ذلك، يدعو بعض الحداثيين إلى التصويت بنعم لهذا الدستور بالذات، في نفاق غريب، إنهم ذاهبون إلى الاصطفاف مع سعيّد لسبب وحيد. لقد أراحهم من خصم سياسي هو حركة النهضة. وحين تستند الممارسة السياسة إلى هذه المشاعر، نغادر حقل السياسة، وندخل حقل العداوات الشخصية التي لا تنتهي.
التونسيون ذاهبون إلى استفتاءٍ سيمنح قيس سعيّد دستوراً جديداً يحكُم به إلى حين. لن يدوم هذا الدستور، لأن الشعب التونسي، بنخبه ومجتمعه المدني وأحزابه، لم يشارك في صياغته. إنه دستور سعيّد الذي سيزول برحيله، من دون شك.