الشباب الأردني وسؤال السردية التاريخية للدولة
يحاول كتاب "الشباب الأردني ومئوية الدولة: السرديات التاريخية، التحدّيات الراهنة ورهانات المستقبل" (معهد السياسة والمجتمع، عمّان، 2021) بناء جسور الحوار الجيلي بين جيل من الشباب يبحث عن هويته ويواجه تحدّيات غير مسبوقة ويتطلع إلى المستقبل من جهة، ونخبة من السياسيين والخبراء والأكاديميين الذين يمتلكون المعرفة العلمية والخبرة العملية. والكتاب (أعدّ فصوله وحرّرها عبدالله الجبور وهيثم حسّان) هو محصلة جلسات حوار استمرّ ثلاثة أشهر، بداية من مارس/ آذار 2021 إلى يونيو/ حزيران من العام نفسه، تم خلالها عقد 12 حوارية بين نخبة من المتخصصين والخبراء والباحثين والسياسيين من جهة ومجموعات شبابية من جهة أخرى، عبر تقنية "زووم".
الهدف الآخر من جمع الشباب بالخبراء مراجعة سرديات التاريخ الأردني، والحديث (تحديداً) عن رواية الدولة، لأنّ هذه الرواية تمثّل مصدراً مهماً ورئيسياً من مصادر بناء الهوية الوطنية والمشاعر القومية لدى أي شعب. وقد لوحظت مشكلة حقيقية في الأردن، تتمثل بفجوات ملموسة في بناء الرواية التاريخية ابتداءً، وإشكالات أكثر خطورة في تنشئة الأجيال المتتالية على رواية تاريخية متماسكة، واختلافات واضحة، ما يصل إلى شيوع سردياتٍ مسكونةٍ ومشبعةٍ بالإدانة للتاريخ الوطني الأردني أو الانتقاص من الدور الأردني ومن حجم الإنجاز والتراكمية التي حدثت منذ تأسيس الإمارة.
هل يمكن أن ننكر أنّ غياب الرواية الكبرى المتناقلة عن الدولة وتاريخها والأحداث الجسام التي مرّت بها أدّى إلى أن تملأ الفراغ رواياتٌ وقصصٌ بديلة، أغلبها يقوم على ما نسجه الأعداء والخصوم والآخرون عن تاريخ الأردن السياسي ودوره في المنطقة، وعن أحداث تاريخية مهمة ومفصلية! ليس المقصود، ولا المطلوب، أن نبني روايةً دفاعيةً عن الأردن، تاريخاً ومساراً، بل بكلمة واحدة، الإنصاف لهذا الوطن، ولما تمكّن من تحقيقه وإنجازه بصورةٍ أدهشت المراقبين المحايدين، بينما كانت الدول والمجتمعات والأنظمة تسقط في مسارات الانقلابات العسكرية والأفكار الشمولية والدكتاتورية والخطابات العنترية التي انتتهت إلى مآس وكوارث جرّت على الشعوب الويلات.
الثقافة الوطنية الأردنية ضحلة جداً في مصادر التاريخ وفي الكتب المدرسية وفي الجامعات وفي الفن والأدب والثقافة
بالضرورة، لسنا هنا بصدد مراجعة تاريخية لمحاكمة الآخرين، لكن إذا أراد جيل المئوية الجديد، في هذه البلاد، أن يسير إلى المستقبل على خطى ثابتة، وقدمٍ واثقة ومسار واضح إلى الأمام، فمن الضروري أن يكون متصالحاً مع نفسه، ومدركاً تاريخه ومحدّداته، وهي وقفة أصبحت ضرورية. وقد أكدت ذلك أيضاً هذه الحواريات، في هذه اللحظة التاريخية المفصلية التي نرى فيها جيلاً من الشباب الأردني يراجع المسارات، ويبحث عن ذاته، ويحاول تعريف هويته الوطنية، في ظلّ خطاباتٍ رسمية ملتبسة وغير واضحة في تعريف الأردن، ومن هو الأردني، وما هي هوية الدولة وما هي طموحاتنا وآمالنا؟
ربما يقود ما سبق إلى نقطة خطيرة وحساسة في النقاش عن الأردن والأردنيين، وتتمثّل في التجاهل الغريب والصادم، بقصد أو غيره، لبناء الثقافة الوطنية الأردنية؛ فهي ضحلة جداً في مصادر التاريخ وفي الكتب المدرسية وفي الجامعات وفي الفن والأدب والثقافة. ثمّة أجيال أردنية صاعدة لا تستطيع أن تسميّ ثلاثة من رؤساء الوزراء الأردنيين البارزين على مرّ التاريخ؟ ولا تعرف تاريخ التأسيس أو الاستقلال؟ فضلاً عن محطات مفصلية وحاسمة في تاريخ الأردن؟ هنالك قحط شديد وملحوظ في رصيد التاريخ الأردني في الفن الأردني، وكأنّ الأردنيين لا تاريخ ولا سند ولا رواية ولا رصيد ثقافي وتاريخي لهم؟! أين هي المسلسلات الأردنية أو الأفلام مثلاً التي تتحدّث بصورة احترافية عن الثورة العربية الكبرى، أو عن الآباء المؤسّسين، أو حتى عن الملوك الهاشميين، وعن تطورات المجتمع الأردني؟ لماذا لا نجد مسلسلاً أو فيلماً معتبراً عن وصفي التل أو عن هزّاع المجالي، بل عن إبراهيم هاشم وتوفيق أبو الهدى، أو حتى عن تعريب الجيش الأردني أو عن موقف الأردن في حرب الـ67 أو عن معركة الكرامة، وما أدراك ما الكرامة؟ أو حتى عن دهاء الملك الحسين في التعامل مع السياسات الداخلية والخارجية، أو عن معاذ الكساسبة أو عن سائد المعايطة .. إلخ؟
ضعف ومحدودية وضحالة في الرواية الأردنية في المجالات كافّة، ما يحتاج إلى مناقشات ودراسات وتحليل
هل هو خجل أو تواضع أردني مثلاً؟! أم هو الضعف وغياب الشجاعة لنقول كلمتنا فيما حدث ويحدث؟ فعلاً هنالك ضعف ومحدودية وضحالة في الرواية الأردنية في المجالات كافّة، ما يحتاج إلى مناقشات ودراسات وتحليل، لذلك جاءت فصول عديدة في الكتاب لتخلق حواراً منتجاً بين السياسيين والأكاديميين والمؤرّخين من جهة وجيل الشباب من جهةٍ أخرى.
نلحظ حجم الاهتمام بمراجعة الرواية التاريخية في الفصل الأول من الكتاب؛ إذ ناقش الأكاديمي والباحث مهند مبيضين روايات نشوء الدولة في الأردن وتشكلات الهوية الوطنية، كما قارب مصطفى حمارنة سؤال الاجتماع السياسي في الأردن، كيف تطور منذ القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين، وما هو الإطار الذي حكم علاقة القيادة بالشعب. أما المؤرخ الأردني – وأحد شيوخ التاريخ في البلاد، علي محافظة، فقد أطلعنا على معالم النهضة التي قادها الملك الحسين بن طلال وإنجازاته الكبيرة في عقود السبعينيات والثمانيينات والتسعينيات. ولاحقاً جاء المفكر والسياسي الأردني، عدنان أبو عودة، مستشار الملك الحسين ورئيس الديوان الأسبق، ووزير الإعلام في أحد المنعرجات التاريخية الخطيرة في تاريخ البلاد، ليقدّم لجيل الشباب دروساً مستخلصة من تاريخ الأردن والمحطات المفصلية فيه.
تحدّي الاستقرار السياسي في الأردن هو تحدٍّ على درجة عالية من الأهمية، نظراً إلى الموقع الجيو استراتيجي والسياسات الدولية والإقليمية
في الفصل الثاني من الكتاب، ناقش مرافق الملك الحسين وزير الداخلية الأسبق، حسين المجالي، تحدّي الاستقرار السياسي في الأردن، وهو تحدٍّ على درجة عالية من الأهمية، نظراً إلى الموقع الجيو استراتيجي والسياسات الدولية والإقليمية التي جعلت من هذه المنطقة بمثابة بحرٍ هائجٍ مائجٍ مسكون بالعواصف والرياح العاتية، فضلاً عن القرب الجغرافي والتداخل الديموغرافي مع القضية الفلسطينية.
وعند موضوع الجيوبوليتك وتأثيره على صناعة السياسة الخارجية الأردنية، بين الأمس واليوم، توقف الباحث والمحلل عامر السبايلة ليحلل المواقف الأردنية ويفكك الواقع الراهن. أما الباحث جمال الطاهات فأعاد ترسيم معالم النموذج الأردني بين المئويتين الأولى والثانية، فيما تناقش النائب عمر عياصرة وأمين عام الحزب الديمقراطي الاجتماعي، جميل النمري، مع الشباب في أسئلة الإصلاح السياسي وجدلياته ومحدداته. وتوقف المحامي والمستشار القانوني والكاتب، سائد كراجة، عند مصطلح المواطنة ومفهومه في المضامين الدستورية والقانونية، وربطه بالواقع السياسي والنقاشات والجدالات في أوساط النخب الأردنية. وفي الفصل الثالث تحاور الشباب مع الباحث والمثقف الأردني، إبراهيم غرايبة في كتابه "الأردن الممكن"، وأطلعهم الباحث إبراهيم سيف، وهو أمين عام منتدى الاستراتيجيات الأردني سابقاً، على الأطر الحاكمة للاقتصاد السياسي الأردني والتحولات التي حدثت خلال العقود الأخيرة من مفهوم الدولة الريعية إلى دولة الإنتاج والتغيرات الهائلة البنيوية التي حدثت في الموازنة العامة للبلاد.