السودان ومكر الوسطاء

05 أكتوبر 2022
+ الخط -

(1)

فيما يكاد الانقلابيون في الخرطوم يكملون عاماً على سدة الحكم القسري الذي أنشأوه قسراً وغلاباً، وفيما لا يكفّ شباب السودانيين في تسيير التظاهرات التي هزّت شوارع الخرطوم ومدن أخرى، تفاقمت الأزمة السياسية حتى عصفت بثاني أكبر قُطر في القارّة الأفريقية إلى حوافّ الانهيار. طوال الشهور العشرة الماضية تعدّدت الوساطات والمبادرات والمداخلات، وما اكتفى السودانيون بوسطائهم، بل كثرت الأصابع الأجنبية من هنا ومن هناك، لا مانع لها ولا رادع. تنبّه المتابعون من السودانيين، وهم يرون بلادهم وقد أضحت، بين عشية الطاغية البشير وضحى الجنرال عبد الفتاح البرهان، ساحة مفتوحة لمباريات مجّانية، يتسابق فيها أصحاب المصالح الخفية وقد ظهرت بتفاصيلها، وتتبارى فيها وحوش الأجندات السرّية وقد كشرت عن أنيابها.

(2)

بعد أشهر الانقلابيين الطويلة، ظلّ السّودان بلا حكومة تتولى إدارة شؤون البلاد، وبدا أنّ ثلة الجنرالات الخمسة قد مالوا إلى السيطرة على الحكم، وإن ظلوا يساومون المدنيين من السياسيين لتشكيل إدارة مدنية للبلاد، ويلمّحون إلى أنّهم عائدون إلى ثكنات الجيش، وسيبتعدون من المشهد السياسي، غير أن مثل هذه التلميحات أفضت بالمشهد السياسي إلى تطوّرات لم تكن إيجابية، إن لم نقل إنها سلبية بالكامل.

أول التطورات أن قادة الحركات المسلحة التي وقّعت اتفاقاً للسلام في أيام الحكومة الانتقالية التي قادها عبد الله حمدوك ساورت بعضهم الشكوك حول تنفيذ ذلك الاتفاق، وكأنهم يرون إعلان الجنرالات نيتهم الانسحاب من السّاحة السّياسية والعودة إلى الثكنات سيتركهم في منتصف الطريق، وتحت رحمة حكومةٍ مدنيةٍ قد تتنصّل من ذلك الاتفاق فتنقض العهد، مثلما تعوّد السودانيون على نقض العهود والاتفاقيات منذ عقود طويلة.

(3)

ثاني التطوّرات أنّ إعلان الجنرالات نيّة الانسحاب من المشهد السياسي قد لا يأخذه اللاعبون الأساسيون في الساحة مأخذاً جادّاً. ومع ذلك، فإنّ المتربّصين من قدامى رجالات وعجائز عهد "الإنقاذ" المباد برزت شهيتهم للقفز إلى قوارب النجاة من جديد، بعد أن شبعت غرقاً منذ إبريل/ نيسان 2019، فيما قادتهم الكبار وراء القضبان، يُحاسبون على إفسادهم الحياة السياسية في البلاد، وسرقة مواردها وإهدار دم شباب الثورة.

بدأ السودانيون، خصوصاً شباب الثورة المعارضين للانقلاب العسكري الذي قام به البرهان وعصبته يعبّرون عن ضيقهم بالأصابع الأجنبية

ها هم جنرالات الانقلاب يعيدون عناصر العهد البائد في كل مفاصل الدولة. أعادوا ضباط الشرطة "الإنقاذيين" إلى الأجهزة الأمنية، وأعادوا سفراء "الإنقاذ" ودبلوماسييهم إلى مقاعدهم التي أبعدتهم عنها لجنة إزالة تمكين نظام "الإنقاذ". أعادوا "الإنقاذيين" إلى مناصبهم التي أبعدتهم عنها ثورة ديسمبر 2018، في كل الوزارات والمصارف والمؤسسات التعليمية وغيرها من الشركات، وكثير من كيانات (وهيئات) المجتمع المدني لنظام "الإنقاذ" البائد.

(4)

ثالث التطورات، ولعله أهمّها، يتصل بتكالب الوسطاء والميسّرين الأجانب على قصعة السودان، يسارعون بإبداء حسن النيات، وفيهم دول شقيقة وأخرى صديقة، لا يكفّون عن السعي والمراوحة بين الناشطين السياسيين السودانيين، مدنييهم وعسكرييهم. الذي أغرى بعض الميسّرين والوسطاء الأجانب، وهم أصحاب مصالح وأجندات خفية، هو هزال أجهزة الحكم السودانية، وضعف رقابة وزارة الخارجية السودانية، بحسب ما رآه متابعون كثيرون تجاوزاً لوظائف بعض السفراء المعتمدين في الخرطوم ومهامهم. مع أن أولئك السفراء يعلمون تمام العلم نصوص الاتفاقيات الدولية التي تحدّد وظيفة السّفير وكيفية أداء مهامه، وفق المادة 41 من اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية لعام 1961، وهي المادّة التي نصّت في فقرتها الأولى على "احترام قوانين الدول المعتمد لديها وأنظمتها ويجب عليهم كذلك عدم التدخّل في شؤونها الداخلية"، بما لا تجيز للسّفير المعتمد التعاطي في الشؤون الداخلية للبلد الذي اعتمده. غير أن المنظمات الدولية والإقليمية التي نشأ أكثرها بعد إنشاء هيئة الأمم المتحدة عام 1945، أجازت لنفسها التعاطي في الشؤون الداخلية للدول المنضوية في عضويتها، تحت لافتتين مهمتين، تتصل الأولى بمبرّر حفظ الأمن والسلم الدوليين، وتتصل الثانية بحفظ حقوق الإنسان. ولأن المتغيرات التي حدثت في العقود الأخيرة، خصوصاً ثورة المعلوماتية والتحوّل الذي وقع في التواصل المباشر بين الشعوب والدول، فقد تراجع الالتزام بالمادة 41 من تلك الاتفاقية، وجاز للأمم المتحدة وسواها من منظمات إقليمية التدخل بنسب متفاوتة في الشؤون الداخلية للدول.

(5)

بالنسبة للسّودان، برزتْ بعد إسقاط نظام "الإنقاذ"، إثر ثورة ديسمبر 2018، أوضاعٌ فتحتْ ثغرات لمنظمات دولية ومنظمات إقليمية وشبه إقليمية، بل ومن دول كبرى، للتدخل، من باب بذل المساعي للتوصل إلى استقرار في السودان. ولعلّ المنظمة الأممية هي التي بدأت مثل هذه التدخّلات بمبرّر حفظ الأمن والسلم الدّوليين، وقد لاقت في خلال ذلك عناءً وعثرات. مقتل الأمين العام للأمم المتحدة داغ همرشولد، بعد إسقاط طائرته عام 1961 في الأحراش الأفريقية وأزمة الكونغو في ذلك الزمان في اشتعال، مثل ضيقاً من مثل هذه التدخلات.

فتح ذلك العجز أبواباً لتدخّلات تحت مُسميات مختلفة، مرّة باسم مبعوثين من منظمات بعينها، مثل الأمم المتحدة أو الاتحاد الأوروبي أو الاتحاد الأفريقي، وتدخّلات في شكل وساطات أخرى لمبعوثين لدول كبرى، وجديدها أخيراً قدوم مبعوثين من دول بعينها، أو عبر تكليف سفراء للقيام بتلك المساعي نيابة عن دولهم. تلك مساعٍ حملتْ حسن نياتٍ في ظاهرها، وإشفاقاً وحرصاً على ألا ينزلق السّودان إلى حوافّ انهيار، غير أنها لم تخلُ من حرص على مصالح خافية وغير خافية، تخصّ دول أولئك المبعوثين، أو السّفراء المعتمدين في الخرطوم.

(6)

بدأ السودانيون، خصوصاً شباب الثورة المعارضين للانقلاب العسكري الذي قام به البرهان وعصبته في أكتوبر/ تشرين الأول من العام الماضي يعبّرون عن ضيقهم بالأصابع الأجنبية، تأتي من هنا أو من هناك. سفراء معتمدون في الخرطوم يسارعون، وبتكليف من منظمات معروفة أو بتكليف مباشر دولهم، في مساعٍ تتجاوز مهام السّفراء المعتمدين والمنصوص عليها في مواثيق دولية.

تتناقض تصريحات تصدر عن بعض جنرالات السودان، فتأتي منهم رسائل إلى أطرافٍ في المجتمع الدّولي لا تُعين على تجاوز الأزمة الماثلة

لم يفُتْ على المتابعين، من سودانيين وسواهم، أن عجز الانقلابيين عن الإمساك بإدارة الدولة أفضى إلى حالة من التسيّب، لم تعد معها وزارة الخارجية السودانية قادرة على، ليس ضبط السّفراء المعتمدين في الخرطوم بالالتزام بمهامهم الرسمية، بل حتى تذكيرهم بهذا. والأدهى والأمرّ أنّ جنرالات الانقلاب أنفسهم لا يأبهون لهذه الثغرات التي ساهموا في توسيعها، وذلك بمقابلة مثل هؤلاء السّفراء، ما لا يبدو متّسقاً مع الأعراف الدبلوماسية، حتى وإن كان أولئك السّفراء المعتمدين من دول شقيقة أو صديقة. وقد نقلتْ صحف عن بعض جنرالات الانقلاب اجتماعهم مع بعض أولئك السفراء في دورهم الدبلوماسية وليس العكس، كأن يستدعي الجنرال ذلك السّفير. ويعكس ذلك كله عجزاً بائناً من جنرالات الانقلاب في إدارة الدولة، مثلما يعكس عدم إلمامٍ بالأعراف الدبلوماسية والسياسية التي تضبط العلاقات بين الدول.

(7)

يطوي جنرالات السّودان عاماً كاملاً، وهم على حالٍ من الارتباك، وتتناقض تصريحات تصدر عن بعضهم، فتأتي منهم رسائل إلى أطرافٍ في المجتمع الدّولي لا تعين على تجاوز الأزمة الماثلة، بل تزيدها إرباكاً. لن يستطيع جنرالات، عاشوا ثلاثين عاماً من الولاء لحكم "الإنقاذ"، بل ولن يكون سهلاً عليهم، خلع عباءات ذلك الولاء. ها هم يسعون إلى استعادة عناصر النظام البائد لإدارة البلاد، ويواصلون مواجهة تظاهرات الشباب المنادية بإسقاط الجنرالات واستعادة مدنية الحكم في السودان. مع استعصاءٍ تتزايد تعقيداته، يعمل الانقلابيون على تمكين العناصر التي ظلت تدير البلاد تحت قيادة الجنرال عمر البشير، في الثلاثين عاماً الماضية، بما تتعسّر معه استعادة أي حكم مدني في البلاد. تظلّ ادّعاءات الجنرالات كونهم سيغادرون المشهد السياسي السوداني، وأنّ الجيش يعود إلى دوره الطبيعي لحماية البلاد، وليس لحكمها، ادّعاءات باطلة وغير عملية. جديد ما رشح أخيراً من شائعات تثير السخرية أن أولئك الجنرالات سيخلعون بزّاتهم العسكرية ليصيروا مدنيين فيحكمون البلاد حكماً مدنياً. لا يستبعد أن تكون مثل هذه الأفكار الماكرة من اصطناع أصابع أجنبية، وربما تكون من أصابع شقيقة أو صديقة.