السُّودان: دبلوماسية الصّمت خيرٌ من دبلوماسيةِ الانفعال

23 يونيو 2024

ممثل السودان في الأمم المتحدة الحارث إدريس يتحدث في مجلس الأمن (13/7/2023 Getty)

+ الخط -

(1)

ضاعفتِ المواجهات العسكرية، وقتل المدنيين بصورة متواترة، تقليـص فُـرصِ أداء فاعلٍ للدبلوماسـية السّودانية مقابل تصاعد الأداء العسكري المدمّـر للـبلاد. يكفـي أن نرى القـنـوات الفضائية تبثّ تهافـتاً دبلوماسياً، ما كان سيحدُث، ولا يتوقّع أنْ يصل إلى ما وصل إليه، ما شهدناه في جلسة لمجلس الأمن أخيراً، عن الحــرب في السّـودان، بين ممثلي دولتيـن عربيتين، هُـما السّودان والإمارات.

لعلّ أولى الملاحظات هنا تتصل باستعجال الطرف الذي سارع برفع الخلاف بين الطرفين إلى مجلس الأمن، للنظر في ما اشتكى منه الطرف السوداني من تدخّل للإمارات لصبِّ الزّيت على نار الحرب في السودان. العجلة هي ما مثلتْ تجاوزاً من الدبلوماسية السودانية للمنصات الإقليمية المتاحة لرفع مثل تلك الشكوى إليها، وأولها جامعة الدول العربية.

وثاني الملاحظات ما مثلته تجاوزات الدبلوماسية السودانية في عدم صبرها على الوسائل الدبلوماسية الثنائـية التي تتيح للبلدين مستوياتٍ عـديدة من التعامل الحصيف الجاد. كان من الممكن احتواء تلك الخلافات عبرها، خصوصاً لما بين بلدين لهما من علاقات الأخوة الثنائية والتاريخية العميقة، لو تم استصحابها وتفعيلها، لما كانت ثمّة ضرورة لرفع الخلاف إلى منصّات جامعة الدول العربية، فضلاً عن أن يصل إلى الأمم المتحدة ومجلس أمنها.

(2)

لعلّ استعجال حكومة الأمر الواقع السودانية تصعيد شكواها إلى مجلس الأمن ضد تشاد لتدخّلها في حرب السودان، وهي دولة تقاسم السودان حدوداً تبلغ آلاف الكيلومترات لم يكن متوقعاً. لربما كان من الممكن معالجة أمر ذلك الخلاف واحتوائه لو أتيح للدبلوماسية الثنائية بين البلدين أن تقوم بدورها للحفاظ على علاقات الأخوة الأفريقية والجوار، وألّا تعمد إلى تصعيدها. وللسودان تاريخ أبوي ناصع في استقرار تشاد. والأمر نفسه يُقال عن علاقات السودان ودولة أفريقيا الوسطى، وهي الطرف الثالث الذي طاوله اتّهام مستعجل للتدخّل تأثيراً غير مرغوب في الحرب في السودان، وفي إقليم دارفور تحديداً الذي يتاخم أراضي تشاد.

الدبلوماسية السودانية تجاهلت اتهام ليبيا، ربما لحساباتٍ تخصّ علاقاتها بطرفٍ من الأطراف التي تتنازع على الحكم في ليبيا

ولك أن تعجب لماذا لم تعمد حكومة الأمر الواقع في السودان إلى إقحام ليبيا في الشكوى المرفوعة إلى مجلس الأمن، إذ ثمّة شواهد عديدة فيها ما قد يثبت تهاون السلطات الليبية في إدخال سيارات دفعٍ رباعي بالآلاف وليس المئات عبر الحدود الليبية السودانية إلى داخل السودان. ومعروف تاريخ الجوار السوداني الليبي الذي شهد هذا النوع من التدخّلات، غير أن الدبلوماسية السودانية تجاهلت اتهام ليبيا، ربما لحساباتٍ تخصّ علاقاتها بطرفٍ من الأطراف التي تتنازع على الحكم في ليبيا.

(3)

ليست هذه المقالة بصدد إثبات حقيقة الاتهــامات التي أعلنها السودان أو خطلها، وهـو يتقاتل مع نفسه على حساب مواطنيه، ولكن ما يلفت النظر ما نرى من ضعف في تفعيل التواصل الدبلوماسي بين السودان والدول التي رفعت حكومة الأمــر الواقــع شكواها ضدها إلى مجلس الأمن. من الأعراف الدبلوماسية ما يتيح تدرّجاً معلوماً تجري عبره معالجة ما ينشب من خلافاتٍ بين الدول. عند بدء مثل تلك الخلافات مثلاً، يقع التنبيه عبر تبادل رسائل، خصوصاً بحكم وجود التمثيل الدبلوماسي بين الطرفين المختلفين، ثم يرتفع مستوى التواصل بإيفاد مبعوثين إذا اقتضى الحال. أمّا إن استعصى الأمر بعد ذلك، فيكون المجال مفتوحاً لوساطات أخوية ممّن لهم صلات بين تلك الأطراف، أو أن تلجأ الأطـراف إلى حل خلافاتهما باللجوء إلى المنصّات الإقليمية التي تجمعهم لتلافي التصعيد، وتبقى بعد ذلك منصّة الأمم المتحدة آخر ما يُشتكى إليه. فيبقى السؤال المحيّر: لماذا هرع السودان، في استعجالٍ دبلوماسي قد لا يكون مبرّراً، إلى الشكوى لدى الأمم المتحدة، من دون استنفاد الخطوات الأخرى المتاحة؟

(4)

لو كانت لجامعة الدول العربية أدوارٌ في معالجة الخلاف بين السودان والإمارات، لما وجدت حكومة الأمر الواقع ما يدفعها إلى الشكوى للأمم المتحدة، فالخلاف هو بين دولتيـن عربيتين تجمعهما تاريخياً علاقاتٌ عميقةٌ من التعاون والشراكات، بحكم روابط العقيدة واللسان والثقافة. ربما وقوع حرب غزّة بعد نحو ستة أشهر من حرب السودان قد شغل الجامعة. والخشية أن تكون لبعض الأعضاء فيها من يرى منطقاً في تفاوت التعامل مع بعض دولها بحكم تصنيفٍ لا تخرجه الألسن، عن دول في المركز وأخرى في الهامش، فوقع نسيان حرب السودان أو تناسيها. لكننا لم نشهد توجّهاً في ذلك الاتجاه، ولا سمعنا من حكومة الأمر الواقع في السودان تململاً أو استياءً، بل تابع الجميع إسراعها إلى الشكوى لدى مجلس الأمن، لنشهد نوعاً من الدراما الدبلوماسية المحزنة باستعراضٍ لم يكن مناسباً أن يقع تحت قبة الأمم المتحدة.

ولك أن تسأل عن الاتحاد الأفريقي، وهو المنظمّة السياسية الإقليمية التي تجمع السـودان مع تشاد وأفريقيا الوسطى وبقية دول غربي أفريقيا، إذ لا تجد له دوراً مؤثراً بحكم ما اتّخذ من قرار حاسم بتجميد عضوية السودان إثر وقوع انقلاب عسكري لا يجيز الاعتراف به ميثاق ذلك الاتحـاد.

(5)

وهكذا وجدتْ دبلوماسية السودان والبلاد في حرب مع نفسها طابعُها أفريقي، تتعامل مع ظرفٍ أفضى بها إلى ما يشـبه العـزلة في إقلـيمها، يستعصِي عليها التعامل لإيجــاد حلول لحربها العبثية تحت مظلة المنظمة الأفريقية، بحكم تجميد عضويتها فيه، في حين تتناسى الجامعة العربية السودان بحكم أزمة طابعُها أفريقي لا تعيرها كبيـر عناية، فـيمـا انشغالها بأمر حرب إسرائيل ضدّ فلسطين بات أدعى.

لعلّ المتابعين لمسوا كيف نال اتساع دائرة الحرب من انهيار كل مؤسّسات الدّولة، بما فيها ومنها جهاز الدبلوماسية السّـوداني الذي تمثله وزارة الخارجية

غير أنّ تلك العزلة، كما هو واضح، سبّبها السودانيون أنفسهم، إذ بتساهل تعاملهم مع بعض أطرافٍ خارج حدود بلادهم، خصوصاً بعد إســقاط نظام عمر البشـير، منحتْ تلك الأطراف فرصاً للتأثير في مجريات الحرب لتتّسع دوائرها، فكأنها صارت حـرباً إقليمية بين أطراف أجنبية ذات مصالح، مثلما فيها من أجندات تحـرّك من بعـيد طرفي الحرب في السّودان، بخيوطٍ من تحالفات خفية، جعلتها تتواصل، يوماً بعد يوم وشهراً بعد شهر، ليكون احتمال ترشــيحها للتـدويل أقرب من إمكان إيقـافـهـا.

(6)

ولكن لا بدَّ من ملاحظةٍ مهمّة، تتصل بأداء دبلوماسية السّـودان في هذا الصـدد. ... لعلّ المتابعين لمسوا كيف نال اتساع دائرة الحرب من انهيار كل مؤسّسات الدّولة، بما فيها ومنها جهاز الدبلوماسية السّـوداني الذي تمثله وزارة الخارجية. لقد ظلّ أهـمّ دور لتلك الدبلوماسية يتمثّل في تقديمها النّصح لصاحب القرار السياسي الأوّل في إدارة علاقات السودان الخارجية. غير أنَّ صاحب هذا القرار هنا هـو ما يسـمّى المجلس السّـيادي؛ وهو مجلسٌ بات هيكلاً يتهاوى تماسُكه بسبب تشتت التصريحات وتضارب البيانات على ألسنة أعضـائه، ما أربك أداء تلـك الدّبلوماســية، لـيـراها المراقـبون تابعـاً لبعض قـراراتٍ، لا ناصحاً يُعـيـن في ضبط رصانتها صياغة ومحتوى. تنظر في أحوال معظم بعثات السودان الخارجية، فتجد أنّ الصوت الأعلى من بين أغلــب أصوات سفرائها هو صوت ممثل السودان في الأمم المتحدة، يصـارع بأسـلوب انفعـالـي يضـرّ بمنطق شكواه أكثر ممّـا ينفعها، ولنا ألّا نلومه الـلوم كله على انفعاله، فـهـو دبلوماســيٌّ قد انقطع عن مهنـته أكثر من 20 عاماً.

وَيبقى التساؤل بشأن أحول السّـودان الذي كان رقـمـاً مؤسّـساً ومؤثراً عـلى المستويات، العــربي والأفريقي والدولي، عقوداً منذ استقلاله عام 1956، فإذا هـو حالياً ريشة تتخطفـها رياح الطامعيـن قبل الأبعـدين، وشعبها بين نازح ولاجئ ومقتول.