السودان بين الاستكانة والمطامع

06 أكتوبر 2021
+ الخط -

(1)

ما إن تسمع مسؤولاً أميركياً يبدي حرصاً على الديمقراطية وحرية التعبير، ويتفضل بالنصح لبلدانٍ مثل السودان، الذي يتعثّر موسم ثورته وربيعه هذه الآونة، إلا ويتحسّس ضميرك السياسي إشفاقاً. ذلك أن ما درجت عليه القوى الكبرى، مثل الولايات المتحدة، هو استدعاء مصالحها ومنافعها على الدوام، ضمن أجنداتها في التعامل مع البلدان الأخرى، خصوصاً بلدان العالم الثالث. ومع تحفظٍ على تصنيف بلدان العالم وتوزيعها إلى مجموعاتٍ أولى وثانية وثالثة، فإنّ ذلك التصنيف قد شاع وصار مقبولاً، وإنْ استبطن لوناً من الوصاية والأبوية، بما يصل إلى حدود الاستعلاء من الأعلى على الأدنى، ومن الأكبر على الأصغر.

ومفكّر أميركي، مثل نعوم تشومسكي، وذهنه ناقد لإدارات أميركية متعاقبة، يكاد يزعم أن سياسات بعض تلك الإدارات تحمل، في أحشائها، بعض بذور الدولة الفاشلة. أشير هنا إلى كتابه "الدول الفاشلة" (2007)، وقد أحالنا فيه المفكّر إلى رئاسة ريغان، ثم بوش الأب وبوش الابن، وأخيراً رئاسة ترامب المضطربة، لنجد شيئاً من الحقيقة في هذا الزعم. إن حروباً بحيثيات مزوّرة شنت في الخليج العربي، وانسحاباً مرتبكاً لقوات أميركية من أفغانستان، تزيدك يقيناً من تضعضع سياسات بعض تلك الإدارات الأميركية بما يدنيها من بعض فشل ظاهر. أما حين تُبدي الإدارة الأميركية الحالية حرصاً على مدنية الحكم في الفترة الانتقالية في السودان، هل ما يمكن أخذ هذا على محمل الجد، أم هو ميل مستبطن إلى تحقيق مصالح أميركية عميقة الجذور، تتخفّى وراء ذلك الحرص؟

(2)

لبعض الإدارات الأميركية نهجٌ غير خافٍ في اتباع ازدواجية في المعايير، تجاه قضايا عالمية عديدة تداعت إليها وتوافقت حولها دول العالم، مثل مهدّدات التحوّل البيئي والمناخي والمساهمة في منظمة اليونسكو وأيضاً في منظمة الصحة العالمية، سترى أن إدارة أميركية، مثل إدارة الرئيس السابق، دونالد ترامب، قد جنحتْ إلى نفض يديها من معظم اتفاقيات التعاون الدولي الملزمة. ويورد تشومسكي مثلاً ثانياً يعكس تناقضاً يضعف مصداقيتها السياسية، يتصل بالسودان، وكيف ظلت الإدارات الأميركية تمارس ضغوطها لإجبار رأس النظام السوداني السابق، للامتثال للمحكمة الجنائية الدولية لمحاسبته على جريمة الإبادة الجماعية التي ارتكبها في دارفور، فيما هي لم تبد اعترافاً بتلك المحكمة، وليست عضواً في منظومتها القضائية. يتساءل المفكر الأميركي، تشومسكي، في كتابه عن الدولة الفاشلة عام 2007، ألا يرى المجتمع الدولي أيّ نفاقٍ ولغت فيه الولايات المتحدة في إصرارها لإجبار عمر البشير، قبل أن يسقطه شعبه في السودان، على الانصياع للمحكمة الجنائية الدولية، والولايات المتحدة نفسها، للمفارقة، ليست عضواً فيها، بل ولا تبدي قبولاً لولايتها القضائية عليها؟

(3)

هكذا سنلاحظ كيف ظلّ رئيس النظام السوداني السابق، عمر البشير، في سُدة الحكم ثلاثين عاماً، فقد تعاملت الإدارات الأميركية المتعاقبة معه من وراء ستار، حتى ساعة سقوط الرجل في عام 2019، على الرغم من فرضها على نظامه حزماً من عقوبات أحادية، تركته ضعيفاً، ذلك الضعف الذي يسهل معه ابتزاز نظامه وتركيعه وفق ما تريد الولايات المتحدة. لم تندفع تلك الإدارات المتعاقبة، ثلاثة عقود، إلى إسقاط نظام البشير الآيل إلى الانهيار، بل أبقته في بلده وفي محيطه الإقليمي، متكئاً على عصا نهشتها الأرَضة، مثل عصا النبي سليمان التي ما تنبه الجنّ إلى موته، إلا بعد تداعي عصاه.

لم تندفع الإدارات الأميركية المتعاقبة على امتداد ثلاثة عقود، إلى إسقاط نظام البشير الآيل إلى الانهيار، بل أبقته في بلده وفي محيطه الإقليمي، متكئاً على عصا نهشتها الأرَضة

حين أسقط الشعب السوداني البشير ونظامه الفاسد، فإنّ السقوط كان بيد شعبه، لا بيد أيّ أصابع خارجية، كبرى أم صغرى. وهكذا أسدل الستار على نظام أطال عمره في حكم السودان أقوياء أرادوه مستداماً في ضعفه، بحساب المصالح. والآن تنفتح صفحات جديدة كلّ الجدّة في السودان لمرحلة تالية، يقوم فيها نظامٌ مدنيٌّ ديمقراطيٌّ، يحكم السودان، ويتاح له التفاعل مع أطراف المجتمع الدولي، ويمكن له التعامل مع بقية القوى الكبرى والصغرى في محيطه بندّية واحترام. لكن، لو قصدنا النظر الموضوعي، فإن قيام ذلك النظام الجديد لن تكتب له الاستدامة، إلا إذا توافقت توجّهاته مع مصالح وأجندات محدّدة، يمسك بها الأقوياء، ولم تتناقض معها.

(4)

لو نظرنا بعين الطائر في سمائه، سنرى أنظمة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ليس لها في الديمقراطية من نصيب، ولا من الحرّيات إلا قليل القليل، ثم لا يزعجها الغرب، ولا أقوياء المجتمع الدولي وكباره، بمطالب تُجبرها عسفاً بيّناً لتبدّل من جلودها الاستبدادية، لتتبنّى ديمقراطية وحكماً راشداً، تتنفس خلاله شعوب تلك البلدان، فتختار اختياراً حرّاً وبالانتخاب من يتولى إدارة أمورها. سنرى أيضاً، بعين الطائر في سمائه، كيف أبقت الإدارات الأميركية المتعاقبة علاقات دافئة مع أنظمةٍ عديدة لا تكاد تفارق طبيعتها الاستبدادية والشمولية في تلك المنطقة. هذا عالم تتحكّم فيه المصالح وتتراجع، في أكثر أحواله، مبادئ كثيرة مضمّنة في المواثيق والاتفاقيات الدولية.

(5)

لماذا ننظر في أمثلةٍ أبعد زمنياً، وتحت أنظارنا مثلٌ صارخ، أحواله تتصاعد في أفغانستان، حيّة ماثلة؟ بعد عقود من سيطرة القوات الأميركية على الأحوال في ذلك البلد في آخر سلسلة مواجهات حقبة الحرب الباردة، يأتي قرار الإدارة الجديدة تحت رئاسة بايدن، سحب القوات الأميركية دفعة واحدة، لتنهار بعدها الحكومة الأفغانية التي كان سندها الأساسي تلكم القوات، وتُقدم على إزاحتها بالسيف قوات "طالبان" الأفغانية التي بقيت في تعارض مع الحكومة التي نصبتها الولايات المتحدة عشرين عاماً أو أكثر، لتعود إلى سُدّة الحكم في كابول. تبدو الصورة وكأن الإدارة قد فوجئت، بعد سحب قواتها، بسقوط الحكومة التي ظلتْ تدعمها بالمجنزرات عشرين عاماً.

ثمّة حالات مالت فيها الولايات المتحدة إلى القبول بطاغية نافع، إذا ما وافق أجنداتها ومصالحها

لو لم تتيقن الإدارة الأميركية من بؤس الإدارة الأفغانية، ومن ضعف قدراتها على حكم البلاد، لما أقدمت على الانسحاب. لكن ولأسباب موضوعية مدروسة، فإن قرار الانسحاب الأميركي كان لازماً وحاسماً. ذلك في نظر مراقبين كثيرين يعكس ارتباكاً في سياسة الولايات المتحدة التي تخلّت بإصرار عن حكومة حليفة لها في كابول خلال تلك الفترة الطويلة، فانتهى وجودها في لمح البصر.

(6)

أما في الصراع الناشب الآن في الساحة السياسية/ العسكرية في السودان، فإنّ المكوّن المدني، والذي يبدي ارتياحاً للإسناد الذي تتفضل به عليه الولايات المتحدة، لا ينبغي له التعويل على ذلك الإسناد الأميركي في أيّ حال. ثمّة حالات مالت فيها الولايات المتحدة إلى القبول بطاغية نافع، إذا ما وافق أجنداتها ومصالحها. لك أنْ تسمع، إن شئت، ذلك الهمس الأميركي عن تطوّر ثورة الياسمين في تونس، فيما يرى مراقبون أن نظاماً شمولياً قد يتشكّل في تونس، ويذهب الياسمين إلى يباس ويفقد رائحته.

التوافق الداخلي بين المكوّنين، المدني والعسكري في السودان، هو أفضل السبل التي قد تعيد الأمور إلى نصابها، إلى حين الوصول بعد عامين إلى مرحلة الانتخابات العامة، لحسم شكل الحكم الذي يرتضيه السودانيون، من دون وصاية، لا من المكوّن السياسي المدني المُستكين، ولا المكوّن العسكري الطامِع.