الردّ الإيراني وفنّ امتهان التداول
مرّ ما يقارب الشهر وما زال الردّ الإيراني المباشر على الاعتداء الإسرائيلي، الذي طاول الأراضي الإيرانية، والمتمثّل باغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنيّة، من دون أيّ ترجمة فعليّة. فعلى الرغم من تحوّل الخطاب الإيراني من مقولة "سنردّ في الزمان والمكان المناسبين" إلى مقولة إنّ "الردَّ حتميٌّ"، ها هي طهران ما زالت تدرس إمكاناته وكيفياته، ومن دون أيّ بوادر تنقل الكلام من ميدان القول إلى ميدان الفعل. أيّام مرّت من دون أن يظهر ذلك الردّ، فبات حالةً روتينيةً يوميّةً ينتشر خبرها في الصفحات والمنصّات الإعلامية والصحف، من دون أن يُترجَم في أيّ مضمون مادّي يرتقي إلى مستوىً من مستويات الردّ على الاعتداء والجريمة.
قد يقول قائلٌ إنّ إيران ليست ملزمةً بقضايا العرب أكثر من العرب أنفسهم، وقد يذهب أكثر من ذلك ليقول إنّ إيران اليوم تمثّل، منفردةً، هي ومليشياتها، حالةَ الدفاع الوحيدةَ عن الشعب الفلسطيني ضدّ الإبادة في حقّه، في حين أنّ معظم الدول العربية تكتفي بالمشاهدة، وتذهب أحياناً إلى إدانة الجرائم المتتالية لا أكثر. لكنّ أصحاب القول ينسون أنّ إيران، وخلال سنوات وسنوات، لم تساهم إلّا بتسعير الخطاب والانقسام المذهبي في المنطقة على خلفية زعمها وراثة مشروع تحرير فلسطين. سنوات وهي تشارك في تدمير المنطقة العربية وتقسيمها، وتفتعل المشكلات مع هذا الطرف ومع ذاك، وتُخوّنه، وتتّهمه، وتُؤجِّج الخطابَ الطائفيَّ في وجهه، وصولاً إلى الهيمنة على بعض العواصم العربية والتنكيل بشعوبها، ووأد ثوراتها، كما حصل في سورية، على أساس زعمها هذا، وعلى أساس تهديداتها المتتالية بإزالة الكيان الإسرائيلي من الوجود، وصولاً إلى الكلام عن إزالته في فترة لا تتخطَّى سبع دقائق ونصف الدقيقة من عمر الزمان الأرضي. إلّا أن الفرصة التي أتيحت لها ما زالت في طور التداول الداخلي، من دون أيّ ترجمة خارجية، بل تراها كمن يقطف الورود من الحقول ويفرطها ليقف على رأي في مسألة الردّ من عدمه، علماً أنّ الاعتداء وقع في أرضها، لا بل طاول إحدى الأبنية التي يُفترَض أن تتمتّع بحراسةٍ أمنيةٍ مشدّدةٍ.
أيّام مرّت، وأيام تمرّ، ولا ردَّ إيرانياً في الأفق، لا بل تلكؤٌ يليه تلكؤٌ، مماطلة تليها مماطلة، حتّى بات الأمر ممجوجاً، وبات جزءاً من مشهد مملٍّ يشبه نكتةً سمجةً أكثر ممّا يشبه حرباً شاملةً مفتوحةً في المنطقة يمكن أن تُؤدّي نهاياتها (كما وعدت وتعد إيران، وكما زعمت وتزعم) إلى زوال ذلك الكيان.
تنصيب النظام الإيراني نفسه المعني الوحيد المتبقّي بالقضية الفلسطينية، هو مُجرَّد ممتهن للتداول الذي يبغي الربح فقط
بدايات عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول (2023)، منحت إيران نقطةَ تفوّقٍ نسبيةً، وقوّةَ جذبٍ، أدّت إلى إحداث إرباك حقيقي في مواقف خصومها ومقارباتهم وخطاباتهم، وكسبت تأييداً عارماً في كثير من الشوارع العربية والغربية، حيث كانت ردّة الفعل الشعبية التعاطفية مع القضية الفلسطينية، ومع الشعب الفلسطيني، بوصفها نقطةَ ارتكازِ مجمل القضايا العربية ورأس أولوياتها، تجيَّر بوصفها إرباكاً سياسياً حقيقياً بين المعارضين للنفوذ والتوسّع الإيراني. لكنّ الأيّام مرّت وانقلب السحر على الساحر، وعادت إيران لتظهر وكأنّها مُجرَّد نمر من ورق، نمر يستطيع التهام الشعوب باسم القضايا الكبرى، بدايةً من شعبها وصولاً إلى باقي الشعوب، لكنّه لا يجرؤ، بأيّ شكل، لا على "الشيطان الأصغر" ولا على "الشيطان الأكبر" من خلفه، بل تراه يمتهن اللسان والقول لا الزناد. تقبض طهران على الفتيل لكنّها لا تجرؤ على إشعاله. وإن أرادت القتال، فلا تقاتل إلّا بشعوب العرب، وفي أراضيهم، وعلى حساب باقي قضاياهم.
قد يذهب آخرون إلى التهجّم على أيّ من مواقف المعارضين للسياسة الإيرانية، مبرّرين ذلك بالقول إنّ هؤلاء المعارضين سيتهجّمون على إيران إن ردّت، كما سيتهجّمون عليها إن لم تردّ، لكنّ هذا لا يرتقي ليكون ردّاً سياسياً، ليس أقلّه من باب فنّ الممكن، بقدر ما هو مهرب من تلكّؤ إيران في الردّ على الاعتداء أكثر ممّا يمكن أن يكون أيّ شيء آخر. إذ من المبرَّر في الخصومة السياسية أن تحشر الخصم في نقطة هو حشر نفسه فيها. فالأمر ليس مُجرَّد مماحكةٍ، كما يحلو لهؤلاء المدافعين عن إيران في سياق تبريرهم عدم الردّ حتّى اللحظة، بل هو فنّ الممكن في هذا الزمن الذي بات الممكن فيه مفتوحاً على الاحتمالات والجرائم كافّة، التي يرتكبها العدو الإسرائيلي، والذي يصل حدّ تقويض الإمكانية نفسها.
يبقى أنّ النظام الإيراني، وعلى الرغم من زعمه التصدّي لتلك القضية الأمّ، وعلى الرغم من تنصيب نفسه المعني الوحيد المتبقّي بالقضية الفلسطينية، هو مُجرَّد ممتهن للتداول الذي يبغي الربح فقط، والذي يُقوِّض الفصل الجِدّي بين المواقف والشعارات الشعبوية من جهة، والفعل من جهة أخرى، ليس بهدف التصدّي للإبادة ووقفها، بل بهدف ترجمة الخطاب في إسكات كلّ مُعترِض، أي بهدف الاستخدام والتداول الداخلي والإمعان في السيطرة على العواصم والشعوب العربية المحيطة أكثر فأكثر.