هل انتبه ميقاتي إلى ما لم ينتبه إليه السنيورة؟
ما زال حزب الله ينتهج في الحرب الجارية التكتيك نفسه الذي انتهجه في حرب تمّوز (2006)، كما في تجربته كلّها على المستويين العسكري والسياسي. ليس مصادفةً أن يُنشَر قبل أيام أنّ رئيس الحكومة المستقيلة نجيب ميقاتي وقّع في 26 من الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول) مقترحاً لوقف إطلاق النار بين حزب الله وإسرائيل، ليسارع من بعدها ميقاتي نفسه وينفي هذا. وليس مصادفةً أيضاً أن يُكلّف الحزب رئيسَ مجلس النواب نبيه برّي ليفاوض باسمه، تماماً كما فعل في حرب تمّوز، وتماماً كما في المفاصل الرئيسة في العقدَين الأخيرَين، ومن ثمّ محاولة وضع رئيس الحكومة في الواجهة، علماً أنّ نواب الحزب ووزراءه يمكنهم تأدية دور علني في عملية التفاوض بوجود ميقاتي وبرّي.
أدرك الرئيس ميقاتي، في مكان ما، أنّ الأمر يتكرّر، متعلّماً من تجربة رئيس الحكومة الأسبق، فؤاد السنيورة، في يوليو/ تمّوز 2006 (مع النقد كلّه الذي يمكن توجيهه لهما)، حينما دفعت قيادة الحزب السنيورة، من خلف الرئيس برّي، ليفاوض بهدف إنهاء الحرب، ولتعود وتنقضّ عليه لحظة انتهاء الحرب نفسها. فما هي إلّا أيام بين انتهاء الحرب وبين الهجوم الكثيف والتخوين الذي تعرّض له السنيورة وحكومته، وانتقالها من حكومة وصفت بـ"حكومة المقاومة" إلى اعتبارها حكومة الخيانة وحكومة كونداليزا (نسبة لكونداليزا رايس وزيرة الخارجية الأميركية تلك الفترة)، التي استكملها الحزب بهجوم مكثّف إلى حين استقالة الوزراء الشيعة منها، والتصويب عليها باعتبارها غير ميثاقية لأنّها تفتقد مكوّنا رئيسا من المكونات الطائفية اللبنانية، انتهاءً بالانقضاض عليها في السابع من مايو/ أيّار 2008، والذهاب إلى مؤتمر الدوحة.
انتبه ميقاتي إلى تلك الثنائية التي امتهنها حزب الله خلال التفاوض على قرار مجلس الأمن 1701 في حينه. إذ بعد الموافقة عليه لوقف الحرب، التزاماً بمطالب كان الحزب نفسه يرفضها، ويُخوِّن كل ما ينادي بها، وفي مقدمتها انتشار الجيش في الجنوب وسحب سلاح الحزب إلى شمال الليطاني، أوعز الحزب نفسه بالموافقة الضمنية على القرار جزءاً من شروط إنهاء الحرب، لكنّه سرعان ما أعلن انتصاره بعد تحقيق ما كان يرفضه، متناسياً أنّ الحرب بنتائجها السياسية، وفي مقدمها القرار 1701، الذي سيعود الحزب ليلتفّ عليه، وعلى اللبنانيين في السنوات اللاحقة، وصولاً إلى الحرب المُستعِرة اليوم.
حزب الله هو الدولة، وهو خارج الدولة، هو قوّتها الضاربة، وهو من يتموضع في هامشها، هو من يقرّر وهو من لا قرار له
هذا التكتيك هو أسلوب الحزب في التداول السياسي، وفي كيفية إدارة الدولة، فهو الدولة، وهو خارج الدولة، هو قوّتها الضاربة، وهو من يتموضع في هامشها، هو من يقرّر وهو من لا قرار له، هو من يوافق ويوعز وهو من يُخوّن من يوافق ويوقّع. كما يمكن تعقّب الممارسة إياها في عملية ترسيم الحدود البحرية التي تخلّى لبنان بموجبها عن آلاف الكيلومترات، إذ دفع الحزب باتجاهها، وترك لنفسه هامشاً كبيراً سمح له بالمناورة والتنصّل من كلّ شيء في اتجاه آخر، فهو يوافق على الخطوات، لكن موافقته مُلتَبَسة، غير علنية، تسمح له بالانقضاض عليها ساعة يشاء، فإن كانت الأمور كما يحلو له تبنَّاها، وإن كانت على خلاف توقّعاته تنصّل منها. وليس أفضل من تحقيق ذلك إلا بوضع غيره في الواجهة، ليمتصّ عنه عبء أيَّ اتفاق قد يكون غير شعبي، ولا يُعبِّر عن مصالح اللبنانيين عموماً، كما يُشكّل تهرّباً من المسؤولية الدولاتية أمام بيئته جرّاء هذه الموافقة خصوصاً.
يبدو أن ميقاتي تنبّه إلى ضرورة عدم التوقيع على مشروع وقف إطلاق النار بعد ملاحظة الهامش الذي يتموضع الحزب فيه، لكن يبدو أيضاً أنّه عاد وسقط فيه بعد الاجتماع الثلاثي الذي عُقِد بينه وبين الرئيس برّي بحضور الوزير السابق وليد جنبلاط، في الثاني من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، وكرّر السقطة لاحقاً بعد جلسة الحكومة في 11 من الشهر نفسه، إذ دان الحرب والاعتداءات المكثّفة التي يمارسها العدو في المناطق اللبنانية كافّة، داعياً إلى الوقف الفوري للحرب. والتي سقط إثرها في فخّ التزام الحكومة، وبموافقة ضمنية من وزراء حزب الله، على تطبيق القرار 1701، وتعهَّد بموجبه باستكمال نشر الجيش في الجنوب وسحب ترسانة الحزب العسكرية إلى ما بعد حدود نهر الليطاني، خصوصاً أنّه يعرف سلفاً أنّ أمراً كهذا ليس بيده، ولا بيد أيّ طرف لبناني آخر خارج الموافقة المباشرة والعلنية لقيادتي حزب الله وإيران.
عمد العدو الإسرائيلي إلى كشف هشاشة الحلول الناتجة من تموضع حزب الله خلف الدولة
هذا الهامش هو ما تصوّب إسرائيل عليه بشكل مباشر اليوم، فبعد ما يقارب 20 عاماً، عمد العدو إلى كشف هشاشة الحلول الناتجة من تموضع حزب الله خلف الدولة. فبعد القرار 1701، نراه اليوم يتقصّد الكشف أمام العالم أنّ ترسانة الحزب العسكرية تضاعفت في المناطق التي يُفترَض أنّها منزوعة السلاح، وهي الذريعة التي يستخدمها ليسوّغ استخدام قدراته العسكرية كلّها، وإجرامه، لتدمير كلّ شيء، ولتقويض أيّ إمكانية لاتفاق ينهي الحرب، مع ما يزيد من خطورة الحرب المُستعِرة، لأنّها ذريعة شكلية، في حين أنّ أطماع العدو تتخطَّى ذلك بكثير.
قد يبدو الأمر في خانة التكتيك السياسي، وقد يبدو في خانة جدلية المناورتَين السياسية والميدانية، إلّا أنّ الحزب، وفي هذه اللحظات المميتة التي يعيشها اللبنانيون عموماً، والطائفة الشيعية خصوصاً، ما زال متمسّكاً بها، وقد ظهرت في خطاب الشيخ نعيم قاسم، وغيره من قيادات الحزب، حين فوّضوا برّي أمرَ التفاوض، لكنَّهم اشترطوا وقف الحرب أولاً، كما أبقوا على الارتباط العلني مع جبهة غزّة، أي إنّهم نسفوا التفويض بأكمله، وهذا يعيدنا إلى المسؤولية التاريخية المتمثّلة بضرورة وقف الحرب بأيّ شكل من الأشكال، إن كان ذلك ممكناً حتّى اللحظة، وتقويض الذرائع كلّها التي يستمرّ العدو باستخدامها لتحقيق أطماعه التي باتت آليته لتغيير مفاصل خريطة الشرق الأوسط، بموافقة دولية، وعلى ما يبدو أيضاً، بموافقة إيرانية.