ماذا بعد انتهاء الحرب في لبنان؟
بعد أن تنتهي هذه الحرب، في حال انتهت وبقي لبنان كما هو في الخريطة، هل سيبقى لبنان السياسي والوضع الاجتماعي والاقتصادي والدستوري فيه على النحو الذي كان عليه؟ هل يُعقَل أنه بعد هذه المأساة والمعاناة التي نعيش تداعياتها من دمار وقتل، أن نعود لنعيش المأساة من نوع قديم جديد، في ظلّ نظام وممارسة سياسية مميتة لا تؤسّس في أحسن أحوالها إلا لتهجير ما تبقّى من لبنانيين من أرضهم، وكأنّ شيئاً لم يتغيّر، وكأن ما مررنا فيه كلّه لن يُقدّم ولن يُؤخّر على مستوى المعادلات الداخلية وممارسة السلطة، وعلى المستوى السياسي والحقوقي والقانوني في البلد، وعلى مستوى العلاقات الدولية ومنوالها الذي كان سائداً طيلة المدّة السابقة؟
قد ينظر بعضهم إلى هذا النوع من الأسئلة وكأنّه من خارج التاريخ، ومن خارج السياق، وأن توقيتها ليس ملائماً، انطلاقاً من قراءة تقول إن الحاجة الماسّة اليوم هي الاستمرار والنجاة من الموت هرباً من وابل الغارات والصواريخ التي يطلقها العدو، فتحرق وتقتل وتدمّر كل ما تصيبه، وتقضي على إمكانيات العيش كافّة. تماماً كما كانت القراءة التي سادت إبّان حرب تموز (2006)، وفي الحروب التي سبقتها، وفي الحروب التي أتت بعدها، إذ إن هذه الضرورة المُفترَضة هي التي تعيق البحث في أي إمكانية للمستقبل فتحيله سؤالاً مؤجّلا بشكل مستمرّ. هذا صحيح، لكنّ صحّته مشروطة باحتمالات لا بدّ من التفكير فيها، والعمل عليها، استكمالاً لها على المستوى السياسي الداخلي، تلك المستويات التي تتراكم في الحاضر لتنعكس في مشروع ورؤية سياسية للمستقبل. فهل نعد من نجا من الموت في حرب اليوم، أن الموت سيزوره، ولأسباب مختلفة، بعد الحرب غداً، أم أن المشروع المستقبلي الوحيد المفتوح أمامه هو الهجرة؟
لا ينفكّ هذا السؤال عن طرح نفسه، بوصفه الأكثر إشكاليةً، يعوق التموضعَ التامَّ في الموقف من الموافقة على المشاركة في هذه الحرب أو الموقف الرافض للمشاركة فيها. إذ إن الموقف الرافض احتلال الأرض وقتل الشعب هو موقف لا بدّ وطني، إلا أن وطنيته مؤجّلةٌ لأنها لا تُستكمَل (ولا تتجلّى) إلا بموقف من الشعب اللبناني نفسه، من دولته، ومن مؤسّساته الدستورية، ومن قوانينه، ومن مصلحته، ومن انتظامه السياسي في حال لم يكن هناك أيّ حرب. وفوق هذه وتلك، من امتداده في الإقليم، خصوصاً من ناحية عروبته. وهنا لبّ المشكلة الأساس حين انعكست بوصفها مشكلةَ حركة التحرّر، التي لا تكون تحرّرية إلا باستكمال المستويين الخارجي (الوطني) والداخلي (الاقتصادي الاجتماعي). وهي النقطة التي وقعت فيها على مستوى الممارسة مشاريع حركات التحرّر العربية في السابق بأكملها، كما أنها المشكلة الأساس التي يقع حزب الله فيها منذ نشأته.
مواجهة أيّ عدو لا تتأسّس ولا تتكامل إلا مع موقف ضروري من الداخل
إن فصل المشكلة الأولى الوطنية عن المشكلة الثانية السياسية والاجتماعية والاقتصادية هو علّة العلل، هو مشكلة المشاكل التي لا بدّ من طرق باب أسئلتها، وإلا فنكون قد استكملنا الانسداد، ويكون العمل السياسي الضروري اليوم لوقف الحرب، ولاستشراف ما يحمله في طيّاته من بذور تصور أوّلي لكيفية إدارة البلاد بعدها، لزوم ما لا يلزم. هذا من دون أن ننسى أن نقطة ضعف هذا النظام اللبناني القاتل هي الطائفية والتبعية للخارج، الطائفية التي تشرذم وتفتح مجالات الفساد كافّةً، والتبعية التي تؤدّي جميع الأطراف دورها فيها بنسب متفاوتة، بحيث أصبح لبنان مُجرَّد أداةٍ لمصالحَ خارجيةٍ تتقاطع قليلاً معه، في حين أنها تتناقض معه ومع مصالحه في معظم الأحيان. تلك الطائفية والتبعية التي يؤدّي حزب الله دوراً طليعياً فيها أيضاً اليوم، بحيث يجمع بين أيديولوجيته الطائفية المحافظة، ورؤيته اليمنية، ونموذجه السياسي الحاكم والمسيّر لنظام تحالف المافيا والمليشيا، وفي الوقت نفسه يجيّر مواقفه واستراتيجيته السياسية والعسكرية إلى المصلحة الإيرانية التي تغدق الأموال والأسلحة والعتاد، وحتى المقاتلين عليه. أن نعود اليوم إلى سابق العهد بعد ما مررنا به كلّه (وما نمرّ فيه) على النحو الذي سارت الأمور إليه بعد نهاية الحرب الأهلية، وبعد توقيع اتفاق الطائف والتسوية التي أتت بعده، وبعد اندحار العدو الإسرائيلي من جنوب لبنان عام 2000، وبعد حرب تمّوز (2006) وقرار مجلس الأمن1701، وبعد 7 أيّار (1983) ومؤتمر الدوحة (2008)، وبعد انتفاضة تشرين (2019-2021)، والانهيار الذي نعيش تداعياته منذ خمس سنوات... فهذا إمعان في القتل وفي تصفية ما عجز العدو عن تصفيته.
قد يبدو للبعض أن طروحاتٍ كهذه، والكلام حول ضرورة التفكير فيها اليوم، في ظلّ الحرب الشاملة التي نعيش تداعياتها، غير ضرورية على النحو الذي قد تبدو عليه. إلا أنها لا تعكس إلا المقاربة الشعبوية التي أوصلت الحال إلى ما هو عليه اليوم، منذ ما قبل الحرب، وخلالها، وعلى الأرجح من بعدها. فتأجيل هذا النوع من الأسئلة لا يعكس إلا فقداناً للأرض، فقداناً للحاضر، وفقداناً أيضاً للمستقبل تماماً كما فقدنا الماضي، لأن مواجهة أيّ عدو خارجي لا تتأسّس ولا تتكامل إلا مع موقف ضروري من الداخل ينبع من رؤية لا يمكن اختصارها بمواجهة العدو الخارجي حصراً، وإلا بقيت انعكاساً لمجموع انزلاقات يتحكّم العدو نفسه بها، وفي مقدّمتها الانعطاب السياسي الداخلي والنموذج الاقتصادي والاجتماعي والتفتيتي الداخلي الذي لا يصبّ إلا في مصلحته.