الحياء أبرز ضحايا صعود اليمين المتطرّف
الهارب من أخبار جحيم غزّة، يجد نفسه مسمّراً أمام شاشات التلفزيون والكومبيوتر، يتابع أخبار فوز اليمين القومي الأوروبي المتطرف، معرّضاً للإصابة باضطراب ذهني إن لم يُعد ترتيب أفكاره سريعاً، ولم يلجأ إلى استشارة التاريخ. وحده التاريخ يطمئن إلى أن لا حتميات فعلاً في سيرة الشعوب واجتماعها، لا حتميات "خيّرة" ولا "شريرة". صحيحٌ أن صعود اليمين المتطرّف عالمياً ليس ظاهرة مفاجئة، بل تتويج لتراكم فشل اقتصادي وسياسي، إلا أنه ليس محطّة في مسار خط بياني ما إن يبدأ صعوده أو انحداره، يكون مكتوباً عليه مواصلة الارتقاء إلى أسمى قمة أو النزول إلى أدنى قاع، وإلا كان إحياء ذكرى ميلاد هتلر عيداً مقدساً يوحّد كل بلدان المعمورة اليوم، وكان أحفاد فرانكو يحكمون مدريد.
ليس أخطر ما يحمله الصعود الصاروخي لليمين الأوروبي القومي المتطرف هذه الأيام الأثر السلبي على المهاجرين واللاجئين في بلدان القارّة، على فظاعة ذلك التأثير. فهذا الغرب الذي يريد ملايين في بلادنا القضاء عليه وعلى قيمه أو جعله يشبه أحوالنا، تبقى دولة القانون راسخة فيه، والمكتسبات الدستورية والحقوقية والليبرالية متجذرة. حتى اليمين المتطرّف عندما يحكم، لن يكون قادراً على إلحاق الأذية بشكل مؤسّساتي وفوري بكل من يقيم بشكل قانوني في الدولة المعنية قبل أن يعدّل دستوراً ويلغي قوانين وينسحب من اتفاقيات أوروبية مع ما يترتب عن ذلك من هزّات كبيرة إن طال الانقلاب ثوابت، كالمساواة في المواطنة والعلمانية والحريات الخاصة والعامة. وليس أخطر ما يُخشى من هذا اليمين المتطرّف الضرر الرهيب المتوقّع أن يُحدثه تخلفه وجهله وولعه بنظريات المؤامرة على المشاريع العالمية القاصرة عن حماية ما تبقى من مناخ وبيئة، ولا السعادة الغامرة التي يشعر بها فلاديمير بوتين وهو يرى شخصياتٍ تضرب المثل به تصل إلى الحكم أو تدنو منه. أما اقتطاع حكّام اليمين المتطرّف، أعداء العِلم، تمويل الأبحاث الصحية، فقد سبقه إليهم اليمين "العادي" والنتيجة معروفة: كل يوم وباء جديد. جميعها كوارث يعدنا بها اليمين المتطرّف، بشعبوية مقزّزة، ولكنها وعكات يمكن التعافي منها بانتخابات تطيحه من السلطة مثلما أوصلته إليها. لكن ما يصعب مداواته من ظاهرة صعود اليمين المتطرف، أنه كسر تابوهات المجاهرة بالعاهات الفكرية كلها، وصار التفاخر باعتناق أفكار اليمين المتطرّف، حتى بعد خضوعه لعمليات تجميل جذرية، أو الإشهار بالتصويت له، سلوكاً عادياً لا عيب فيه ولا عار.
لم ينعدم يوماً وجود الفاشيين والنازيين والشعبويين والعنصريين المعجونين بكره الآخر والعلم والانفتاح، لكن في "العقود الثلاثة المجيدة" التي تلت نهاية الحرب العالمية الثانية في أوروبا خصوصاً، ترسّخت تابوهات عريضة بوصفها إجماعات أخلاقية: التمييز العنصري حسب لون البشرة والعرق والدين والهوية الجنسية، هو عيب قبل أن يكون جرماً بنظر القانون. رفض المشروع الأوروبي المشترك بالمطلق، بكونه فكرة، عيب، فالعالم يجب أن يسير نحو الانفتاح وإضعاف الحدود لا الانعزال والتقوقع والسياسات الحمائية وبناء الجدران. النبش في تاريخ الحروب الأوروبية الدينية والقومية، عيب. إعادة النظر في علمانية الدولة الحديثة وحياد مؤسساتها تجاه الأديان حين يتعلق الأمر بعدد مسلمين صار "أكبر من اللزوم" في المجتمعات الأوروبية، عيب. معاداة مجموعات دينية، اليهود في الأمس والمسلمون اليوم، عيب. فحص الدم الهوياتي والعرقي، عيب. التنكيل في قيم الحداثة والارتداد على الحريات الفردية باسم أخلاق دينية وقيم عائلية قروية، عيب. كلها عيوب لم تعد كذلك اليوم.
في الأمس القريب وفي رواية أخرى، كان العار أن يُتّهم كائناً من كان بأنه يميني متطرّف. اليوم، يكاد يصبح استخدام وصف اليمين المتطرّف محظوراً في القانون، لأنه يحمل وصماً سلبياً للموصوف. نقطة الضوء في هذه الغابة المظلمة أن التاريخ لا حتميات فيه، وأن أحداثه لا تسير وفق خط بياني مستقيم. غداً، ربما، يعود الحياء، حياء أن يقول امرؤ ما ينطق به فيكتور أوربان ونايجل فراج ومارين لوبان وإريك زيمور وغيرت فيلدرز وجورجيا ميلوني ودونالد ترامب وخافيير ميلي وجايير بولسونارو والملايين من أنصارهم. ربما يحصل ذلك وربما لا.