الحرب على غزّة في الأردن
بصورة مفاجئة، عاد الزّخم الشديد للاعتصامات والمسيرات إلى الشارع الأردني، في ليالي رمضان، لدعم موقف أهل غزّة. ومنذ أيام، يحاول آلاف المعتصمين ليلاً أمام مسجد الكالوتي، بالقرب من سفارة الكيان الإسرائيلي، اقتحام السفارة، بينما يحول الأمن دون ذلك، ما يؤدّي إلى بعض الصدامات والمواجهات والاعتقالات. قد يبدو الأمر طبيعياً، فهنالك شارع هائج مائج غاضب محتقن نتيجة الإبادة الجماعية في غزّة والخذلان العربي وضعف المجتمع الدولي. في المقابل، ثمّة حسابات أكثر تعقيداً وأصعب للسياسات الرسمية، بالرغم من أنّ الموقف الأردني يمثّل حالة متقدّمة، نسبياً، على الأنظمة العربية الأخرى، بما في ذلك السلطة الفلسطينية. في الأثناء، تصعد خطابات بائسة مخجلة في السجال العام على مواقع التواصل الاجتماعي تتخذ طابعاً خطيراً يهدّد السلم المجتمعي، ويعزّز حالة من الاستقطاب الأعمى الهوياتي الذي ينقل المعركة الحقيقية من ساحة الدفاع عن الحقوق الوطنية الفلسطينية ومواجهة حرب الإبادة الإسرائيلية وحماية الأمن الوطني الأردني إلى حساباتٍ أقل من ذلك بكثير، بين أطراف في النظام وأطراف في المعارضة، ما يهدر الصورة الإعلامية (Image) للدور الأردني الدبلوماسي الرائد والخطاب السياسي الأردني المتقدّم في الدفاع عن غزّة ومواجهة الكيان الإسرائيلي دبلوماسياً، ويسيء كثيراً إلى جهود أردنية كبيرة خلال المراحل السابقة.
مثل هذه الاحتكاكات والتجاذبات تقع في دولةٍ تتخذ هذه المواقف المهمة والكبيرة والمعتبرة دبلوماسياً، بينما تتّسم الأمور بالهدوء في دول أخرى كانت مواقفها مخجلة وضعيفة ومحدودة، فكيف نفسّر ذلك؟! يتمثل الجواب في مجموعة من المحدّدات، في مقدّمتها ضعف الرسالة الاتصالية في الأردن، وهي مشكلة قديمة جديدة تعاني منها السياسات الأردنية دوماً، إذ لا يوجد "مطبخ إعلامي" محترف، قادر على صناعة الرواية والسردية ومواكبة المواقف السياسية، وهو أمرٌ ملحوظ بشدة إذا ما نظرنا إلى خطاب الملك عبد الله الثاني في القاهرة في بداية العدوان، والخطابات والتصريحات المهمة لوزير الخارجية الأردني، أيمن الصفدي، التي أثرت بمواقف غربية عديدة، ولقاءات الملكة رانيا مع الإعلام الدولي، والإنزالات الجوية التي اخترق فيها الأردن الحصار الإسرائيلي، وغيرها من جهود كان يفترض أن تترافق مع رسائل إعلامية ذكية قادرة على الوصول إلى الشارع الأردني أولاً، والشارع العربي ثانياً، وهو ما لم يحصل.
في استطلاع رأي للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، لم يظهر الرأي العام العربي، عموماً، اهتماماً بالمواقف الأردنية، ولا حتى في الضفة الغربية وغزّة، بالرغم من الجهود الدبلوماسية الكبيرة التي قام بها الأردن، والحضور الإعلامي اللافت للوزير أيمن الصفدي. ولا يختلف تقييم الاستطلاع الذي أجراه أخيراً المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية، إذ أظهر تواضعاً في تقدير الدور الأردني في الأراضي المحتلة. يكشف هذا وذاك أنّ هنالك مشكلة كبيرة في صوغ الرسالة الإعلامية الأردنية وقدرة الأردن على الوصول إلى الداخل، فضلاً عن الخارج. يتمثّل الجانب الثاني من المشكلة في القدرة على إدارة الأزمات والتعامل معها، والغريب أنّ هنالك تقديراً واضحاً للسياسة الأردنية من الشارع الأردني واعتزازاً بالمواقف الواضحة والصلبة، لكن هذه التوجّهات بدلاً من استثمارها سياسياً في الداخل، لبناء توافقات وطنية وتعزيز الشرعية السياسية وتصليب موقف الأردن، تحوّلت إلى مصدر تهديد وتحدٍّ بين المؤسّسات الرسمية من جهة، وقوى المعارضة والحراك الشعبي من جهةٍ أخرى.
ثمّة فجوة منطقية، في العادة، بين الحكومات والمعارضات، حتى لو جاءت المعارضة إلى الحكم ستتغيّر حساباتها، هذه بديهيات سياسية في العالم كله. وبالضرورة، هنالك اختلافات بين الشارع والحكومة في مستوى الدور الأردني المطلوب، وبشأن مسائل مثل ما سمّي "الجسر البري"، والموقف من اتفاقيات السلام، وهذا أمر من الممكن تحويله إلى فرصة للنظام يستثمرها في رفع سقف الدبلوماسية في مواجهة العدوان على غزّة، لكن للآسف تُهدر هذه الأوراق المهمّة في يدي الأردن، مع خضوعٍ لحساباتٍ صفريةٍ في معادلة صغيرة بحسابات الأمن الوطني والمصالح الحيوية بين مختلف الأطراف الداخلية، وهذه الأزمات الاتصالية والإدارية باتت بمثابة ظاهرة أساسية في تحليل السياسات الأردنية.