الثقافة في الأردن أمراً "غير مفكّر فيه"
يتجاوز سؤال الهوية الوطنية الجانب السياسي إلى المستوى الثقافي العميق، سواء على صعيد القيم المشتركة والرواية أو الحكاية التاريخية التي يمتلكها شعبٌ معيّن عن تاريخه وتراثه، وفي الأردن، تصاعد النقاش والحوار أخيراً وبدرجة كبيرة بشأن مفهوم الهوية الوطنية، بخاصة مع مئوية الدولة. ولعلّ مما يتفق عليه المثقفون والسياسيون الأردنيون أنّ هنالك قصوراً وتقصيراً شديداً من المؤسسات الرسمية وغير الرسمية في بناء تصوّرات واضحة للهوية الوطنية، بما تحمله من مضامين تاريخية ومجتمعية وثقافية وسياسية. إلّا أنّ هذا الاهتمام السياسي لم ينعكس على الجانب الأكثر أهمية في تشكّلات الهوية الوطنية، والمقصود فيه الجانب الثقافي، فما زال معظم المسؤولين ينظرون إلى الثقافة بوصفها أمراً ثانوياً وغير مهم، وليست ضمن دائرة أولوية الدولة والحكومات، وهو ما ينعكس على الموازنة البائسة لوزارة الثقافة التي لا تتجاوز رواتب الموظفين في الوزارة. ما هو أسوأ أنّ مستوى الاهتمام بالشأن الثقافي، بتجلياته وأبعاده المختلفة، كان أفضل في عقود سابقة، على صعيد الأغنية الوطنية والدراما التلفزيونية، فيما يبدو مفهوم القوة الناعمة غائباً تماماً عن إدراك المسؤولين الأردنيين.
تأسيساً على الإشكالية السابقة، جاء من تأليف كاتب هذه السطور مع الباحث في معهد السياسة والمجتمع محمد أمين عسّاف (بالتعاون مع مؤسسة تجلى وشبكة فناني المدينة وبدعم من منتدى الحموري للتنمية الثقافية)، كتاب "التشريعات والمؤسسات الثقافية الأردنية: مراجعة الأطر الناظمة"، ويحاول أن يعرّف حجم الاهتمام الرسمي ونوعيّته بالسؤال الثقافي؛ بما يتفرّع عنه من تساؤلات وأسئلة مهمة ورئيسية، سواء على صعيد تعريف الثقافة في الوثائق الرسمية، وتأطير الشأن الثقافي على الصعد التشريعي والمؤسّساتي والسياساتي.
تقوم الفرضية التي يتأسّس عليها الكتاب على أنّ القصور الثقافي في الاهتمام الرسمي الأردني يتأسّس بداية على ضعف الأطر التشريعية والقانونية والنظامية المعنيّة بالشأن الثقافي، وهو الأمر الذي انعكس على الجانب المؤسساتي وعلى المجال السياساتي أو الاستراتيجي. وبالتالي، ما كان يبحث عنه مؤلفا الكتاب مراجعة التشريعات والقوانين الأردنية، أولاً، والكشف عن كيفية معالجة الشأن الثقافي؛ وعلاقته بالمجالات الأخرى، سياسياً واقتصادياً ومجتمعياً.
المطلوب اليوم هو الانتقال في التفكير في المجال الثقافي من مربّع الرعاية والعناية والدور الريعي للدولة إلى الاستثمار الثقافي والتعاون المطلوب بين القطاعين العام والخاص في هذا المجال
لعلّ أبرز ما وصل إليه الكتاب أنّ التشريعات الأردنية، بداية من الدستور وصولاً إلى قوانين عديدة، لا تتوفر على تصوّر مستقل واضح لأهمية الشأن الثقافي والمساحة التي يحتلها في حياة المجتمعات والشعوب، وأكثر من ذلك على تعريف للفعل الثقافي. ولعلّ الملاحظة اللافتة للانتباه أنّ الدستور والقوانين المختلفة يخلوان من الديباجة التي في العادة تكون في مقدّمات الدستور والقوانين، وتعبّر عن الشأن الثقافي وتعكس الروح الثقافي للمجتمع والدولة. وبالتالي، فإنّ خلاصة تعريف الشأن الثقافي في التشريعات الأردنية، عموماً، أنّه يتسم بالعمومية والضحالة وعدم الخصوصية.
ثمّة فراغات جليّة في المجال التشريعي المتعلق بالشأن الثقافي، فلا توجد قوانين وتشريعات تفصيلية تتناول المجال الثقافي بأنواعه الجديدة، بخاصة في مجال الصناعة الثقافية والإبداعية والإرث الثقافي والفعل الثقافي. وتكاد المواد المتعلقة بالشأن الثقافي في الدستور تكون محدودة جداً، منها ما يتعلّق بهويّة الدولة وما يتعلّق بالحرّيات العامة وحقوق الإنسان بالمجمل. وإذا كان هنالك تعريف وتفصيل وتوضيح للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والمدنية للمواطنين، فهنالك إغفال كبير للحقوق الثقافية، وكأنّها أمرٌ غير معرّف أو ثانوي، بالرغم من انّها وردت في العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وفي التعليق الدولي رقم 21 على الفقرة 1 من المادة 15 في العهد نفسه، إذ أكد التعليق أن الحقوق الثقافية جزء من حقوق الإنسان، وتم تعريف معنى الحق الثقافي والحياة الثقافية ومفاهيم المشاركة والمساهمة والوصول في الحياة الثقافية.
واضح أنّ هنالك ضرورة ماسّة اليوم لتطوير التشريعات المعنية بالشأن الثقافي، التي من المفترض أن تشكّل رافعة حقيقية لمنظور وطني مختلف لهذا المجال المهم والحيوي. وأحد أبرز الأمور التي تستدعي إعادة النظر تتمثّل بتخصيص مواد واضحة في الدستور والقوانين للشأن الثقافي، واستدخال مفاهيم مهمّة، مثل الصناعات الإبداعية والثقافية والمنتجات الثقافية والمنتجات الرقمية، التي تشكّل في دول عديدة أحد المدخلات المهمّة في الناتج المحلي الإجمالي، بينما تكاد لا تذكر في الحالة الأردنية، نتيجة عدم إدراك الحكومات الأردنية المتعاقبة أهمية هذا النوع من الاستثمار والصناعات.
التشريعات الأردنية، بداية من الدستور وصولاً إلى قوانين عديدة، لا تتوفر على تصوّر مستقلّ واضح لأهمية الشأن الثقافي
إذاً، المطلوب اليوم هو الانتقال في التفكير في المجال الثقافي من مربّع الرعاية والعناية والدور الريعي للدولة (تحوّلت وزارة الثقافة، في أحيانٍ كثيرة، إلى ما يشبه الجمعية لدعم المثقفين والفنانين الذين باتوا يعانون من محدودية الموارد الثقافية وضعف إدراك مفهوم الصناعات الثقافية والإبداعية) إلى الاستثمار الثقافي والتعاون المطلوب بين القطاعين العام والخاص في هذا المجال، وهو ما يفترض ان ينعكس في الاستراتيجية الثقافية والسياسات الثقافية للدولة، التي تعاني، هي الأخرى، من ضعف وضبابية وعدم إدراك الحكومات المتعاقبة أهميتها وكيفية بنائها!
في الأثناء، يبدو أنّ وزارة الثقافة الأردنية أدركت أهمية هذا الانتقال في المنظور الثقافي، فاستدخلت مفاهيم الإبداع والابتكار الإبداعي والثقافي والعالم الرقمي في الاستراتيجية الجديدة (2023-2027)، وضمّنت البرنامج التشغيلي للاستراتيجية المفاهيم الجديدة؛ إلّا أنّ من الضروري أن يكون هنالك نقاش وطني للاستراتيجية والسياسات الثقافية، بما يوازي، وربما يزيد ويتجاوز النقاش حول السياسات الاقتصادية أو التحديث السياسي أو السياسات العامة، فالثقافة تمثّل البنية الرئيسية لأي سياسات، وحتى عمل المؤسّسات المختلفة في الدولة.
يسلط هذا الكتاب الضوء على هذه الجوانب المغفلة في النقاشات الوطنية، ويدفع نحو منظورٍ جديدٍ للشأن الثقافي، وفي مقدمة ذلك كلّه أن يكون "مفكّراً فيه" من الحكومات والمجتمع المدني والبلديات والمؤسسات المختلفة، على الصعيد الوطني، وعلى صعيد الهويات الثقافية المحلية، والنظر إلى ذلك كلّه ضمن مفاهيم الاستثمار والصناعة والإنتاج الثقافي والإبداعي.