الإعلام المصري وطوفان الأقصى وإدمان لوم الضحايا

24 أكتوبر 2023
+ الخط -

على الرغم من موجة التضامن المصري والعربي الشعبي الكاسحة التي تعكسها هاشتاغات مواقع التواصل الاجتماعي والتظاهرات الغاضبة مما يرتكبه الكيان الإسرائيلي من مجازر في قطاع غزّة، ليست آخرها مجزرة مستشفى المعمداني، وعلى الرغم من أن الموقف الرسمي المصري يبدو متماشيا، إلى حدّ ما، مع المزاج الشعبي المصري، ولو مصلحيا على الأقل من منطلق ركوب الموجة والتنفيس، إلا أن الإعلام المصري يغرّد خارج هذا السرب بشكل كبير. ولا يُساق هذا الكلام هنا عبثا، فجزء مهم من الروتين اليومي لكاتب هذه المقالة متابعته برامج التوك شو المصرية، على الرغم من ثقل ذلك على النفس، وأيُّ نفسٍ تلك التي تستطيع تحمّل هذا الكم من الدعاية الممجوجة الموجهة من هاتف سامسونغ والأجهزة السيادية التي لا تعبّر، في المطلق، عن هموم الشعب المصري والأمة العربية؟

في يوم عملية طوفان الأقصى، 7 أكتوبر/ تشرين الأول الحالي، كانت النغمة الغالبة الصدمة مع بعض الفرحة والتحليل والترقّب لهذه الحرب العظيمة بكل ضجّتها، فالعملية النوعية هي الأكثر تخطيطا وتفوّقا ومفاجأة ومبادأة للمقاومة الفلسطينية في تاريخها، حتى لكأنّها تضاهي الملاحم التاريخية للأمة العربية والإسلامية، بل وربما في التاريخ الحديث، إذ لأول مرة تنفّذ عملية برّية وبحرية وجوية متزامنة بهذا التنسيق حركة مقاومة، وأي حركة، إنها مقاومة محاصرة إقليميا ودوليا ومن المحتل بشكل غير مسبوق، وكان قد دبّ فينا اليأس من إمكانية قيامها بشيء في الظرف الحالي الخانق لقطاع غزّة المحاصر منذ صعود هذه الحركة إلى السلطة في العام 2006، واستعداء النظام المصري لها واعتبارها نذير شؤم عليه وعلى حكمه الذي اعتاد إدانتها ولومها في كل عملية عسكرية إسرائيلية ضد القطاع، ووصف عملياتها بأنها غير محسوبة، وتجرّ المنطقة إلى كوارث، ومحاصرتها بكل وسيلة، إلى حد تهديد وزير خارجيته الأخير أحمد أبو الغيط بتكسير عظام أي فلسطيني يعبر الحدود في أثناء عملية الرصاص المصبوب شتاء عام 2008/ 2009، في انفصال تام عن الشارع المصري.

كان اليوم الأول للحرب احتفائيا بأن إسرائيل في حالة رعب لأول مرة منذ عقود، وتل أبيب يجرى ضربها، ‏والقبة الحديدية لم تستطع الصمود أمام صواريخ الفصائل الفلسطينية. وأشاد مذيعو "التوك شو"، في مجملهم، بما قدّمته المقاومة الفلسطينية، واستخدام حروب الجيلين الرابع والخامس خلال العملية. واعتبر بعضُهم أن ما حدث يعكس الفشل الاستخباري والعسكري الإسرائيلي، وإهانة نظرية الأمن الإسرائيلية، ومفاجأة بكل المقاييس، بعد أسر عشرات الجنود وقتل مئات بمن فيهم قيادات في الجيش الإسرائيلي، واعتبار ما حدث ردّ فعل، وليس فعلًا، نتيجة 75 عاما من الاحتلال والقهر والظلم والتعدّي على المقدّسات وتجويع غزّة وحصارها.

كأننا أمام إعلام صهيوني بامتياز، حيث ينتقل من تلبيس الحقّ بالباطل للدفاع عن الباطل

في اليوم الثاني للمعركة، ركز الإعلام المصري على تناول أعداد القتلى في صفوف الاحتلال، باعتبارها غير مسبوقة منذ حرب أكتوبر، وما أوردته الصحف العالمية عن عملية طوفان الأقصى ومحاولتها إظهار إسرائيل ضحية مع تصدير المظلومية. وجاء الإعلام المصري على اجتماعات مجلس الأمن والقصف الإسرائيلي لغزّة ردّا على العملية، والدعم الأميركي والغربي لإسرائيل. ثم كانت متابعات التطورات في الأيام التالية. وقد جاءت الحرب بالتوازي مع الذكرى الخمسين لحرب أكتوبر (1973)، وكأن النصر نصران. ولكن مع بدء المقارنات، بدأت بعض الأصوات الإعلامية تتّجه إلى نقد المقاومة تمهيدا لشيطنتها، فبدأ الحديث على استحياء إن حرب أكتوبر كانت لها رؤية وخطّة سياسية، فيما الذي أقدمت عليه المقاومة الفلسطينية من دون رؤية سياسية، ثم بدأ الهجوم الأوسع على المقاومة، وحركة حماس تحديدا، مع اشتداد القصف الإسرائيلي. وبينما كان الإعلام والصحافة العبريان يحملان نتنياهو مسؤولية الفشل الاستخباري وانفجار الأوضاع في قطاع غزّة، كان قصفٌ على "حماس" يجري على الناحية الأخرى بكتيبة إعلامية، في مقدمتها إبراهيم عيسى، الذي شنّ هجوما حادّا على "حماس" وشكّك في نيّاتها، والدخول من مدخل المدنيين، فقد ناقش في برنامجه "حديث القاهرة" ما سماه "إرهاب حماس" باحتجاز الرهائن الإسرائيليين في عملية طوفان الأقصى. وبدأ الحديث عن توطين الفلسطينيين في سيناء وكأنه مخطط إخواني حمساوي سعى إليه الرئيس الراحل محمد مرسي والإخوان المسلمون، في تفكير تآمري غريب. وسرعان ما أصبحت فقرة تهجير الفلسطينيين إلى سيناء أو التوطين فقرة ثابتة في كل برامج التوك شو المصرية منذ التاسع من أكتوبر/ تشرين الأول الحالي.

رويدا رويدا، انسحبت رواية إدانة حركة حماس والمقاومة والهجوم عليها إعلاميا، وكأننا أمام إعلام صهيوني بامتياز، حيث ينتقل من تلبيس الحقّ بالباطل للدفاع عن الباطل، إذ انتقل من القول إن عملية طوفان الأقصى عمل نصفه مقاومة وعمل شرعي، والباقي من ترويع المدنيين الإسرائيليين وجلبهم إلى غزّة عمل إرهابي، في تعزيز للرواية الإسرائيلية عن الحرب باعتبارها تحارب الإرهاب نيابة عن العالم. وتخدم مثل هذه الرسالة الإعلامية المصرية، مجهولة الهدف، إسرائيل وأهدافها الرامية إلى دعشنة "حماس" وتشبيه ما يجري بأحداث "11 سبتمبر" (2001)، وبأنها حرب المدنية والحضارة ضد الوحشية. ولا عجب، فإبراهيم عيسى وجل الأذرع الإعلامية في مصر هم من يشيطن "الإخوان" وحركات الإسلام السياسي العادية، فما بالنا إذا كانت حركات مقاومة، رغم أن النظام المصري يتعامل معها وتتعامل معه، إلا أن لأجهزة "السامسونغ" والأذرع الإعلامية، فيما يبدو، رأياً آخر، أو أنها تريد ترويج هذه الأفكار تمهيدا لشيءٍ ما لا نعلمه.

بدأ الحديث عن توطين الفلسطينيين في سيناء وكأنه مخطط إخواني حمساوي سعى إليه الرئيس الراحل محمد مرسي والإخوان المسلمون

وفي الأيام الأولى للعملية أيضا، كان هناك فخر بتحذير مصري لإسرائيل تارة من عملية محتملة في غزّة، وتارة أخرى بتحذير عام من انفجار الأوضاع في القطاع المحاصر منذ مدة طويلة، وهو الأمر نفسه الذي أثير في الصحف العالمية، لكن تناوله إعلاميا جرى في البداية دلالة على تميز الاستخبارات المصرية، ثم عندما جرى تداول الموضوع على مواقع التواصل، بدا الأمر أننا بصدد أعمال تجسّس وإسداء خدمة للاحتلال على طريق احتفاء الإعلامييين أنفسهم بالعميل أشرف مروان الذي أفصح أرشيف إسرائيلي عن عمالته لإسرائيل، إلا أنه لا يزال رمزا يُحتفى به في مصر. عندما انتشرت هذه الصورة السيئة، جرت إعادة توجيه الدفّة، ونفي أي تحذير مصري مسبق لإسرائيل من "طوفان الأقصى".

واصل عيسى وغيره اتهام مرسي و"الإخوان" بمحاولات توطين الفلسطينيين في سيناء، و"حماس" بتسبّبها في حدوث كارثة في غزّة، حتى لكأننا إزاء إعلام أفيخاي أدرعي الذي ينحني أمامه غوبلز من هول تزييفه الحقائق، وكأن مرسي من تخلى عن جزيرتي تيران وصنافير، وبارك صفقة القرن منتظرا نصيبه منها، وكأنه هو من هدم الأنفاق مع قطاع غزّة وأغرقها، كما أغرق البلاد بالديون التي تُستعمل حاليا للضغط على مصر بقوة، لفرض إرادة إسرائيل عليها بإحكام الحصار على غزّة، ليستضيف أحدُهم الأستاذ في جامعة الأزهر سعد الدين الهلالي للتشكيك بشرعية المقاومة، قائلا إن عملية طوفان الأقصى كان لا بد أن تجرى بتوافق أهل فلسطين باعتبارهم شعبًا واحدًا، وأن مواجهة الاحتلال الإسرائيلي يجب أن تكون بالدبلوماسية العربية، وليس بالطريقة التي قامت بها "حماس" من دون وجود قرار توافقي بين الفلسطينيين لتحمّل عواقب مثل تلك العمليات، في ترسيخ لإدمان ثقافة الانبطاح والانهزامية ولوم الضحايا بكل السبل.

ومع الأسف، تعزّز هذا الخطاب حتى بعد مجزرة مستشفى المعمداني، إذ استمر رموز هذا الإعلام بلوم "حماس" باعتبارها اختطفت القرار الفلسطيني، والشعب يدفع ثمن قراراتها، بل وامتدّ إلى نقد كل تظاهرة، سواء تلك التي خرجت في الأزهر أو في نقابة الصحافيين أو الجامعات، باعتبارها تظاهرات إخوانية... متى يتوب الإعلام المصري عن انبطاحه وهزيمته الفكرية وإدمان لوم الضحايا؟