الأردنيون والفلسطينيون... تحدّيات المرحلة المُقبلة
ما زالت العلاقات الأردنية الفلسطينية تشهد جدلاً واسعاً واتجاهات متضاربة في المُقاربات، بخاصّة في الأوساط السياسية الأردنية، ولعلّ آخر الطروحات المُهمّة ما أفضى به السياسي الأردني البارز، رئيس الديوان الملكي السابق جواد العناني، في "العربي الجديد" ("مستقبل العلاقات الأردنية الفلسطينية"، 25/7/2024)، إذ أكّد على العلاقة العضوية والتاريخية بين الشعبين، ودعا إلى موقف عربي يعيد الربط بين الأردن وفلسطين، لنسف قرار قمّة الرباط في العام 1974، الذي اعتبر منظّمة التحرير الممثّل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وبني عليه قرار فكّ الارتباط بين الضفّتين في 1988، لكن ضمن إطار جديد مختلف من علاقة كونفدرالية (من البديهي القول إنّ هنالك فرقاً بين الكونفدرالية والفدرالية، وما طرحه العناني أقرب إلى الفدرالية).
تتمثل الدلالة الرئيسية لمقال العناني في نظريةٍ رئيسة مفادها أنّ استبعاد المظّلة الأردنية للضفّة الغربية أدّى إلى استفراد الإسرائيليين بالفلسطينيين، والتهام الضفّة الغربية عبر الاستيطان، وإضعاف القوّة الديبلوماسية والسياسية لهم. لكنّ العناني، حتّى لا يتقاطع ما يطرحه مع مقولتي "الوطن البديل" و"الخيار الأردني"، اللتين تنادي بهما إدارة ترامب، وكانتا من بين القضايا "المسكوت عنها" في "صفقة القرن"، فقد ربط ذلك بخطّة واضحة عربية لمحاصرة إسرائيل، وجدولة لاستعادة الحقوق الفلسطينية بصورة أكثر قوّة وفعالية.
يواجه "الخيار الاستراتيجي"، الذي يدعو إليه جواد العناني عقبات وتحدّيات بنيوية، ويقفز عن حقائق واقعية واضحة للعيان
ولعلّ ما لم يُفصح عنه العناني الإدراك المتنامي لعجز السلطة الفلسطينية في وضعها الراهن، وضمن الضغوط التي تتعرّض لها من مواجهة الآلة الصهيونية والاستيطان والمسار المتدهور البيّن للقضية، والتحوّلات الاستراتيجية في البيئة المحيطة، التي تعطي الإسرائيليين مساحةً واسعةً لتنفيذ المُخطّط الاستراتيجي الوحيد الذي لديهم، وهو تهجير الفلسطينيين، وإلغاء حقوقهم بالكامل، وهو، في النهاية، يستدعي بدوره الهاجس الأردني التاريخي "الوطن البديل".
إذاً، تتمثل محاولة العناني في العودة إلى الإمساك بزمام المبادرة، عبر دور أردني، لكن بشروط مختلفة، وفي سياقات مغايرة لما يطرحه اليمين الإسرائيلي والأميركي، وتسهّله الحالة الفلسطينية والعربية اليوم. لكن في المقابل، فإنّ هذا "الخيار الاستراتيجي" يواجه عقبات وتحدّيات بنيوية وكبيرة، ويقفز أيضاً عن حقائق واقعية واضحة للعيان. ما هي الوقائع والحقائق التي تجعل من أطروحة "الخيار الأردني" خطيرة على الأمن الوطني الأردني ومستقبل القضية الفلسطينية؟
الحقيقة الأولى تتمثّل في معضلة "الحلّ الديبلوماسي"، فلن تنسحب إسرائيل من الضفّة الغربية ولا من القدس عبر البوابة الديبلوماسية، سواء كان الأردن هو المظلّة أو السلطة الفلسطينية أو حتّى الدول العربية جمعاء. وهو ما أكّده بوضوح الديبلوماسي الأميركي المخضرم، المتوفي الأسبوع الماضي، مارتن أنديك (عمل في هذا الحقل عقودا)، في كتابه "سيّد اللعبة: هنري كيسنجر وفنّ ديبلوماسية الشرق الأوسط" (راجع مقال كاتب هذه السطور في "العربي الجديد" بعنوان: "سيّد اللعبة"... كيف تُبنى السياسات الشرق أوسطية، 18/6/2024)، إذ أوضح أنّ الملك الحسين تلقّى العرضَ نفسه الذي قبله ياسر عرفات (وأدّى إلى اتفاق أوسلو والسلطة الفلسطينية) في العام 1974 ورفضه، وأدرك منذ تلك المرحلة أنّ المطلوب سيطرة أردنية على التجمّعات السكّانية وليس الجغرافيا الفلسطينية، بمعنى أنّه لو كان فعلاً هنالك أمل في أن يكون الدور الأردني المدخل الاستراتيجي لاستعادة الحقوق الفلسطينية، أو في الحدّ الأدنى الضفّة الغربية وغزّة والقدس، كان يمكن أن نفهم ذلك جزئياً، ولكن النتيجة الوحيدة التي ستترتّب على ذلك هي نقل الكرة الملتهبة إلى الأردن، بخاصّة عندما لا نرى أيَّ أفق لتحوّلات في المشهد الإسرائيلي، الذي بات بالكلية تحت رحمة اليمين، دينياً وسياسياً وراديكالياً ووسطياً.
الحقيقة الثانية أنّ "وحدة الضفَّتَين" لم تكن محلَّ ترحيب عربي، بل أكثر من ذلك (كما أشار العناني نفسه)، كان هنالك انقسام كبير في الأوساط الفلسطينية تجاهها، ومثّلت لاحقاً منظّمة التحرير الهُويّة الوطنية الفلسطينية، التي قبل بها أغلب الفلسطينيين، والعودة إلى الوراء اليوم لمراجعة قرار قمّة الرباط، أو قرار فكّ الارتباط، لن تُلغي تلك الحقائق الكبيرة، بالرغم من التكامل بين المصالح الأردنية الفلسطينية، فإنّ هنالك هُويَّتَين أردنية وفلسطينية تشكّلتا ونمتا وتطوّرتا، وسيكون أشبه بالانتحار محاولة الدمج بينهما، لأنّ ذلك يعني تقوية واحدة على الأخرى، وهذا غير ممكن، والأخطر أنّه ينقلنا إلى صدام داخلي بين الطرفَين، فأيّ تفكير في أيّ نمط من العلاقة لا بدّ أن يكون بعد الوصول إلى الحقوق الفلسطينية، وليس قبل ذلك، وهو أمر مستبعد في الوقت القريب.
الحقيقة الثالثة وهي موازين القوى، التي باتت تميل لمصلحة إسرائيل، والمقصود بها إقليمياً ودولياً، فالوسط الجيوستراتيجي العربي لم يعد قائماً، والدول العربية خرجت من إطار الصراع بصورة جلية وواضحة، وهنالك رغبة لدى العديد من الدول للتطبيع مع إسرائيل، وتراجعت مركزية القضية الفلسطينية (بالرغم من التداعيات الآنية التي أحدثتها عملية طوفان الأقصى)، والإدارات الأميركية عاجزة وربّما ليست راغبة أصلاً في ممارسة الضغط على إسرائيل للتنازل، والمعادلة داخل إسرائيل لصالح اليمين، الذي يؤمن فقط بـ"الحلّ الأردني" بمعنى "الوطن البديل"، والأخطر هو الاحتمال الأكبر لعودة دونالد ترامب، وما لا يعرفه كثيرون أنّه مارس ضغوطاً كبيرة على الأردن من أجل الموافقة على إلغاء السلطة الفلسطينية والعودة إلى الضفّة الغربية، وهو ما رفضه الملك بحزم شديد، ما يُفسِّر انزعاج عديدين من السياسيين الأردنيين من مقالة العناني، بالرغم من القناعة بالنيّة الحسنة التي تقف بالضرورة وراءها.
ذلك لا ينفي الإقرار بالموقع البنيوي الذي تحتلّه القضية الفلسطينية في العلاقة مع الأردن، وفي السياسات الأردنية، فأيّ محاولة للفصل أو التخلّي أو الحدّ من أهمّية ما يحدث "غرب النهر" في الشأن الأردني هي، في الطرف الآخر، محاولة غير واقعية، ولا تأخذ بعين الاعتبار العديد من العوامل الرئيسية، التي تُعزّز الربط بين المسارين الأردني والفلسطيني، سواء كان في الصعيد المحلّي أو الإقليمي، أو حتّى الدولي.
التفكير في أيّ نمط من العلاقة بين الفلسطينيين والأردنيين لا بدّ أن يكون بعد الوصول إلى الحقوق الفلسطينية، وليس قبله
الأردن محكوم سياسياً واستراتيجياً بـ"الجيوبوليتيك"، ما يمثّل نعمة ونقمة في الوقت نفسه عليه، كما كان يُردّد المفكر والسياسي الراحل عدنان أبو عودة. صحيح أنّ هذه المعادلة (المُدخلات) ليست مقتصرة على القضية الفلسطينية، بل تشمل الحدود الشمالية والشرقية والجنوبية، كما يجادل أستاذ العلاقات الدولية حسن المومني (في مقالته في المجلة الأردنية للسياسة والمجتمع)، إلّا أنّ هنالك خصوصية أكبر وأعمق للترابط الأردني – الفلسطيني، جغرافيا تاريخياً سياسياً، وجدل العلاقة الأردنية الفلسطينية يرتبط بدرجة أكبر وأعمق بكثير في ترسيم الدور الإقليمي الأردني، الذي يُمثّل مُتغيِّراً رئيساً في بناء المنظور الأردني للعلاقات الداخلية والإقليمية والدولية، وبالتالي فإنّ محاولات التقليل من أهمّية أو خطورة المسار الفلسطيني على السياسات الأردنية هو بمثابة "هروب للأمام"، ومحاولة شبيهة لتجاهل حقائق ووقائع كبيرة، داخلياً وخارجياً.
إذا استبعدنا الخيارين السابقين (الوحدة والفدرالية، والتقوقع والانفصال الكامل)، فإنّ الخيارات البديلة تتمثّل باجتراح علاقة جديدة تقوم (بالضرورة) على التنسيق والتحالف ودور أكبر للأردن، ليس في صعيد الجغرافيا، بل في التحالف السياسي الاستراتيجي، وفي ترتيب البيت الداخلي الفلسطيني، وفي تثبيت الفلسطينيين في أرضهم وفي دعمهم في القدس، وهو ما ينطلق من مقاربة نقدية للوضع الراهن، للدفع نحو منظور استراتيجي أردني مُختلِف، يجعل من الضفّة الغربية مسألة أمن وطني أردني، وجزءاً من المجال الحيوي، ويُعزّز من الاشتباك الإيجابي للأردن مع الفلسطينيين، في الضفّة والقدس وفلسطينيي الـ48، لإيجاد تصوّر استراتيجي مشترك في مواجهة اليمين الإسرائيلي والأميركي في حال عودة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وهو تحدٍّ كبير، بالضرورة، يُفكِّر فيه بصورة جدية وقلقة "مطبخ القرار" الأردني، لأنّ عودة ترامب ستحمل معها مخاطرَ حقيقية، وتستدعي ضغوطاً دوليةً وإقليميةً، ومحاولاتٍ جديدةً لإنهاء القضية الفلسطينية على حساب الأردن.